التجارة الخارجية.. تواصل اقتصادي منبعه الانتماء القاري
المعبر الحدودي جسر اقتصادي بمعايير دولية..
هيئتا التصدير والاستيراد... ضمان شفافية آليات التبادل التجاري
تنمية المناطق الحدودية يتجاوز تقوية التبادل التجاري إلى الأبعاد الأمنية
التبادل التجاري وإعــادة تجارة المقايضــة سيعززان العلاقـات السياسيــة الإفريقــية
تبدي الجزائر في إطار سياسة تجارتها الخارجية، وتوسيع صادراتها خارج قطاع المحروقات، رغبة في تعزيز حضور منتجاتها وخدماتها في الأسواق الإقليمية خاصة بليبيا وموريتانيا، اللتين تمثّلان فضلا عن ذلك، عمقا استراتيجيا يتجاوز الأبعاد الاقتصادية بكثير، فهو يندرج في سياق الجهود التي تبذلها لتنشيط العلاقات الاقتصادية مع دول الجوار، في ظل سياق إقليمي يميزه تحدي تحقيق الأمن الغذائي والسيادة الاقتصادية، وهو ما يجعل من التعاون جنوب-جنوب مسألة حيوية في دعم الاقتصاديات المحلية، بما يضفي التوازن على المنطقة.
ولتحقيق هذا الهدف، طوّرت الجزائر من آلياتها الهيكلية والتنظيمية على غرار المعارض الدائمة، حيث تمكّنت من التوقيع على 26 اتفاقية مع موريتانيا، شملت الطاقة والكهرباء والمعادن والغاز في سبتمبر2022، ليرتفع عددها إلى 40 اتفاقية الشهر المنصرم، مما يرسّخ مكانتها على مستوى جميع الوجهات الإفريقية.
ويوضّح رئيس مجلس الأعمال الجزائري - الموريتاني، يوسف الغازي، العائد من موريتانيا بعد اختتام فعاليات المعرض الدائم للمنتجات الجزائرية بموريتانيا، بحر الأسبوع المنصرم، بخصوص فرص الاستثمار خارج الحدود ومكامن الثروة، قائلا إن دول غرب إفريقيا تعد منطقة واعدة للاستثمارات بحكم الاكتشافات الهائلة للغاز والنفط والذهب، وقد قطعت الجزائر أشواطا معتبرة في هذا الصدد، من خلال تهيئة الظروف المناسبة لتوسيع استثماراتها في إفريقيا، حيث أنجزت الطريق العابر للصحراء الذي يربط دول الجوار بموانئها. وتسعى حاليا إلى تجسيد مشروع السوق الحرة كتتويج لسنوات من التشاور والتعاون البناء بينها وبين موريتانيا، لاستغلال المساحة الجغرافية الشاسعة التي تجمعهما، كمنبع غني للثروة.
وأكّد الغازي في اتصال مع “الشعب”، أنّ توجه الدولة الجزائرية نحو تنمية المناطق الحدودية، يتجاوز تقوية التبادل التجاري إلى الأبعاد الأمنية، من خلال تعزيز الرقابة على الحدود التي طالما كانت بؤرة للنشاط التجاري الغير مشروع. كما أن التبادل التجاري وإعادة تجارة المقايضة سيعززان العلاقات السياسية الإفريقية، بما فيها العلاقات البينية الجزائرية-الموريتانية، ويوحّدان وجهات النظر حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، ويمكن الجزائر من ترسيخ مكانتها في غرب إفريقيا، خاصة بعد إعادة بعث تجارة المقايضة وتعزيز المبادلات التجارية مع موريتانيا، من أجل تسهيل تعميق نفوذها في الأسواق.
مجالس الأعمال..حلقة ربط
وارتأت “الشعب” أن تتّخذ من العلاقات مع الشقيقة موريتانيا، عينة حية للحديث عن نموذج استراتيجية التجارة الخارجية الذي اعتمدته الجزائر في السنوات الخمس الأخيرة. وقبل الخوض في الحديث عن المنطقة الحرة بين الجزائر وموريتانيا، تطرّق يوسف الغازي إلى العلاقات الوطيدة التي تجمع الجارتين، وصلة الانتماء القاري والحضاري التي تربطهما. إضافة إلى المصير المشترك الذي أصبح اليوم أكثر ارتباطا بالمتغيرات الاقتصادية والجيو-إستراتيجية العالمية.
وذكر المتحدث أن أولى الخطوات لتكريس التعاون الاقتصادي والمبادلات التجارية بين البلدين، جاءت مع مبادرة استحداث مجلس جزائري - موريتاني للأعمال مكون من 10 مؤسسات جزائرية، والعدد ذاته من الجانب الموريتاني، كخطوة تاريخية أسّست لآفاق جديدة للعلاقات الاقتصادية الثنائية للبلدين، متبوعة بفتح المعبر الحدودي ودخول أول الشاحنات الجزائرية وولوج السلع الجزائرية إلى السوق الموريتانية، تتويجا للمساعي المشتركة للجارتين ببناء جسر تجاري متين يعزز ويحصن مؤشراتهما الاقتصادية.
بنى تحتية نحو الوجهات الإفريقية
وعن طبيعة العلاقات التجارية الجزائرية - الموريتانية، قال الغازي إن هذه العلاقات بين البلدين تعرف نسقا تصاعديا منذ بداية 2020، في ظل القرارات الجريئة التي اتخذها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، خاصة ما تعلق بالطريق الرابط بين تندوف والزويرات الموريتانية على مسافة 775 كلم المقبلة. وكضرورة حيوية لتجسيد سياستها التجارية بالعمق الإفريقي، عكفت الجزائر على الاستثمار في الهياكل القاعدية والبنى التحتية وربط حدودها الغربية والجنوبية بجاراتها من القارة السمراء، على غرار ربط منطقتها الجنوبية الغربية بموريتانيا من خلال هياكل قاعدية. إجراء، اعتبره يوسف الغازي مشروعا استثماريا ذا بعد قاري تسعى الجزائر من خلاله إلى الرفع من قيمة مبادلاتها التجارية مع الشقيقة موريتانيا إلى عشر أضعاف على ما هي عليه حاليا، كما ستمكّنها من ولوج أسواق غرب إفريقيا عبر موريتانيا.
من جهة أخرى، يعتبر الغازي المعبر الحدودي بين الجزائر وموريتانيا شريانا اقتصاديا يفتح الأبواب واسعة أمام المنتج الجزائري نحو مختلف الوجهات الإفريقية.
فروع بنكية لدعم المسعى
وبما أنّه لا يمكن الحديث عن المعاملات التجارية، دون التطرق إلى القنوات التي تضمنها من أموال وتحويلات بنكية، باشرت الجزائر - برؤية استشرافية - إلى فتح فرع بنكي جزائري تحت تسمية “بنك الاتحاد الجزائري” بنواكشط في سبتمبر 2023 وآخر في “نواذيبو”، فيما يرتقب استحداث الفرع الثالث في الزويرات، الأشهر القليلة المقبلة.
وتهدف الجزائر من خلال هذه الخطوة - حسب الغازي - إلى تسهيل حركة رؤوس الأموال بين المؤسسات النشطة بين البلدين وتمكينها من تجاوز عقبة التحويلات المالية، مضيفا أنه وتزامنا مع افتتاح هذه المؤسسات المالية كقنوات تسهل التحويلات المالية للمتعاملين الاقتصاديين الجزائريين، يعتبر المعرض الدائم للشركات الجزائرية على مستوى العاصمة الموريتانية “نواكشط”، فرصة للتعرف على أحدث المنتجات الجزائرية ولفت أنظار الموردين الموريتانيين تجاهها، مما يفتح لها آفاقا تسويقية واعدة مستقبلا، بعد اكتمال البناء القاعدي والهيكلي لإستراتيجية الاقتصاد الإفريقي التي تنتهجها الجزائر في السنوات الأخيرة. إذ يأتي تتويج الجهود بإقامة معبر جزائري بمعايير عالمية عالية الجودة كمثل التي تتمتع بها مرافق العبور بمختلف دول العالم، من استجابة لراحة المستثمرين من الدولتين، وتسهيل مهامهم.
ويترجم هذا الإنجاز - يواصل الغازي - توجه الجزائر الدائم المتطلع إلى تنمية مستدامة وتعاون اقتصادي بين بلدن يمتلكان من المقدرات والثروات المعدنية والغذائية المتكاملة، ما يسمح لهما بإقامة شراكات اقتصادية قوية ومربحة، حيث بلغت قيمة المبادلات التجارية سنة 2023 حوالي 414 مليون دولار مقابل 87 مليون دولار سنة 2021، وزيادة قدرها 82 بالمائة مقارنة بـ 297 مليون دولار مسجلة سنة 2022.
تكامل الخبرات لتثمين الثّروة
من جانب آخر، تطرّق رئيس مجلس الأعمال الجزائري الموريتاني إلى بعض المشاريع التي تشكّل مكامن ثروة حقيقية يمكن تثمينها من خلال تبادل الخبرات بين البلدين، لما تتمتع به الجزائر من خبرة في مجال إنتاج الغاز والكهرباء والبنى التحتية والهياكل القاعدية وإقامة السدود ونقل المياه، يمكن أن تستفيد منها الجارة الموريتانية التي تتمتع بخبرة لا تقل عن 40 عاما في مجال إنتاج خام الحديد وتحويله وتصديره إلى كل أنحاء العالم، وهو الشق الذي يمكن أن تستفيد منه الجزائر بعد دخول غارا جبيلات كثالث احتياطي عالمي من معدن الحديد، مرحلة الاستغلال القصوى.
بالمقابل، أوضح الغازي أن موريتانيا تمتلك ثروة سمكية هائلة تقدر طاقة تصديرها السنوية بـ 1.8 مليون طن، وقد سجلت أحدث الإحصائيات التي قدمتها وكالة ترقية الاستثمارات في نواكشط أن نسبة تصدير الأسماك لم تتجاوز 1.2 مليون طن، ما يؤكّد حاجة موريتانيا لشركاء اقتصاديين لتصدير الثروة البحرية.
وفي هذا الصدد، تمّ إبرام اتفاقية تسمح باستغلال مناطق صيد الأسماك بالسواحل الموريتانية بين وزارة الفلاحة والصيد البحري الجزائرية والطرف الموريتاني، وذلك على هامش فعاليات معرض الجزائر الدائم بموريتانيا. كما عملت موريتانيا في السنوات الأخيرة على تطوير البنية التحتية عبر تجهيز 4 موانئ بحرية، بكل من نواذيبو ونواكشط وتانيت وندياغو، تسعى من خلالها لأن تبقى حلقة وصل بين العالم ودول غرب إفريقيا والساحل.
آليات لتعزيز فرص الاستثمار
وعن تفاصيل ومخرجات معرض المنتجات الجزائرية بنواكشوط، المنظم من 22 إلى 28 ماي المنصرم، أكّد يوسف الغازي أنه يشكل منصة لتعزيز الحضور الاقتصادي الجزائري في السوق الإفريقية عبر بوابتها الغربية، حيث أسفر المعرض عن توقيع أكثر من 40 مذكرة تفاهم بين شركات جزائرية وموريتانية تنشط في قطاعات متعددة، مثل المواد الغذائية، ومواد التنظيف، والمنتجات البلاستيكية، والمستلزمات الطبية، والبناء، والنسيج، والكهرباء، والإعلام الآلي. وشاركت في هذه الاتفاقيات 43 شركة جزائرية عمومية وخاصة، إضافة إلى منظمات وهيئات متخصصة في التجارة والتصدير والتنمية.وفيما يخص طبيعة الاتفاقيات الموقّعة، أشار محدثنا إلى وجود تنوع قطاعي كبير يعكس الطموح الجزائري في أن لا تقتصر الصادرات على مواد أولية أو استهلاكية محدودة، بل تشمل منتجات صناعية وخدمات ذات قيمة مضافة. كما أبرزت هذه المبادرات رغبة متبادلة في تعزيز التكامل الاقتصادي من خلال آليات تعاون مؤسساتي مؤطر ومنظم.
ومع التحضير لفتح الطريق الاستراتيجي الرابط بين تندوف والزويرات، يتوقع الغازي أن يشكل هذا المشروع نقلة نوعية في انسيابية البضائع نحو العمق الإفريقي. كما ينتظر أن يعزز إنشاء المنطقة الحرة على الحدود، التي تم الاتفاق بشأنها بين الطرفين، من جاذبية الاستثمار ويمنح المنتجات الجزائرية منفذا دائما ومهيكلا نحو السوق الموريتانية والأسواق المجاورة، في إطار رؤية أوسع لربط الجزائر بمحيطها الإفريقي اقتصاديا.
هيئتا التّصدير والاستيراد..دعم تنظيمي
وعن سؤال “الشعب” حول السياق التشريعي والتنظيمي الذي تتزامن معه المبادرات الاقتصادية الجزائرية خارج الحدود، أجاب الغازي أن هذه التحركات تأتي في وقت تزامن مع قرار رئيس الجمهورية، عقب ترأسه لجلسة عمل، بحضور وزير التجارة الخارجية وترقية الصادرات ومدير الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار بإطلاق هيئتين جديدتين لتنظيم وتسيير عمليات التصدير والاستيراد.
وقد أسدى رئيس الجمهورية تعليمات دقيقة بضرورة ضبط النصوص القانونية للهيئتين بما يتماشى مع المعايير الدولية ويضمن استقرارا طويل الأمد في آليات التبادل التجاري، مع التأكيد على أهمية التنسيق التام بين وزارة التجارة الخارجية والبنك المركزي والجمارك، لتطوير منظومة مراقبة فعالة تضمن حماية الإنتاج الوطني وتوجيه عمليات الاستيراد وفق الحاجات الاقتصادية الحقيقية.
بالمناسبة، ثمّن الغازي تعليمات الرئيس تبون بوضع مواصفات صارمة للمصدرين والمستوردين واستحداث آليات جديدة مثل تعاونيات الشراء الجماعي من أجل تنظيم السوق وتحقيق الشفافية والفعالية، واصفا إياها بالمتبصرة والسديدة كونها تقطع الطريق أمام التلاعبات والتجاوزات التجارية والجمركية.
للإشارة، أوصى مجلس الأعمال الجزائري-الموريتاني في ختام دورته التاسعة المنعقدة شهر ماي بنواكشوط، بإبرام اتفاق تفاضلي بين البلدين يشمل عددا من المنتجات، مع العمل على تطوير تجارة المقايضة كأداة لتنمية المناطق الحدودية.
ودعا مجلس الأعمال في توصياته إلى العمل على “إبرام اتفاق تفاضلي يشمل عددا من المنتجات، تسريع إنشاء لجنة فنية مختلطة لهذا الغرض، إزالة كافة العراقيل أمام ولوج البضائع الموريتانية والجزائرية إلى أسواق البلدين، وكذا عقد اتفاقية للنقل البري بين البلدين”.
وأوصى المجلس كذلك بإرساء المرونة في المعاملات المالية بين البلدين، وضع الأطر القانونية والإجراءات الصحية لاستيراد وتصدير المواشي ومشتقاتها، مع العمل على ضمان مرافقة السلطات لشركات البلدين في الإجراءات الإدارية ذات الصلة بنشاطاتهم التجارية.
وحثّ المجلس في توصياته شركات الجزائر وموريتانيا على المشاركة في شتى الفعاليات الاقتصادية والتجارية المقامة في البلدين، تعزيز وتنشيط الخط البحري الرابط بينهما وإزالة كافة العوائق أمام انتظامه، مع تسريع وتيرة انجاز الطريق البري الرابط بين تندوف والزويرات.
وتضمّنت التوصيات أيضا فتح خطوط جوية مباشرة بين مختلف المدن الجزائرية والموريتانية، مع اقتراح تطوير تجارة المقايضة بين البلدين، كأداة لتنمية المناطق الحدودية.
ونوّه المجلس بالمناسبة بالجهود “الجبّارة” التي تبذلها الحكومتان لتطوير العلاقات الاقتصادية، لافتا إلى أهمية العمل لتحقيق الأهداف المرجوة في هذا المجال عبر استغلال الفرص المتاحة.