يسجّل قطاع الصناعات الغذائية بالجزائر تطوّرا ملحوظا في السنوات الأخيرة، بقيادة العديد من محترفي الإنتاج الغذائي الذين جمعوا بين الأصالة والابتكار من أجل إبراز الهوية الجزائرية، وإعلاء علامة “صنع بالجزائر” واستحداث فرص جديدة داخل وخارج الوطن، من خلال تلبية الحاجيات الوطنية بمختلف الأحجام والأشكال والأنواع، والذهاب لأبعد من ذلك عبر فتح آفاق جديدة نحو السوق الإفريقية، كما عملوا على تعزيز مختلف الحلقات المتدخلة في سلسلة الصناعة الغذائية من توضيب، تغليف وتعبئة، وتحكم أكبر في المكننة واعتماد آخر التقنيات المبتكرة متسلحين بالعمل، الإرادة والثقة في النفس.
وقفت “الشعب” عند العديد من التجارب لمؤسسات جزائرية نجحت في رفع قدرتها التنافسية، من خلال طرح مجموعة من المنتجات عالية الجودة ما أهّلها للاستيلاء على حصة مهمة في السوق الوطنية، بل وتقف منافسة في وجه منتوجات مستوردة كانت في وقت سابق عنصرا أساسيا في سلة الغذاء الجزائري، حيث أرجع الكثير من مصنّعي الإنتاج الغذائي بالجزائر ذلك إلى الاستفادة من قرار تقليص الاستيراد على حساب الإنتاج الوطني، والعمل بجد على تطوير نشاطهم وتحديثه والاستثمار في البحث والتطوير، من أجل تلبية ذوق المواطن الجزائري الذي استعاد الثقة في كل ما هو جزائري، وتغيّر ثقافته الاستهلاكية التي أضحت تفضّل المنتجات الطبيعية والعضوية بعيدا عن كل الإضافات.
منتجــات الجــودة تفتــح أســـواق العــالم
يؤكّد أمين أوزليفي ممثل شركة “سارل سيبون” لمنتوجات المرجان المعروفة منذ سنة 1998 بالمنتجات المتدخلة في عملية صنع الحلويات والمرطبات كالعسيلة، السكر الرطب والخميرة، وعلى الرغم من بساطة هذه المنتجات، إلا أنّ المؤسسة أعطتها أهمية كبيرة من خلال جعلها منتجات عالية الجودة للمحترفين حتى لا تخيّب آمال مستهلكه الذي يعمل به هو الآخر، مشيرا إلى أنّ الجودة الجيدة تبدأ بالمكونات، حيث يجب تقديم منتوج جيد لا يكفي لتحقيق النتيجة المطلوبة، بل يجب أن تحمل المكونات الصحيحة لتحسين جودتها.
وأوضح أوزليفي أنّ هذا الأمر لم يكن سهلا، بل كان بالعمل والاجتهاد وبذل قصارى الجهد من طرف المسيرّين والعمال لمعرفة جودة المنتج المطلوبة، وكأنّك تتعامل مع “رضيع” من خلال الاهتمام بكل شروط نجاحه من مكونات ودرجة حرارة تجريبه للحصول على الوصفة المطلوبة، واليوم ها هي منتجات المرجان تنتزع الاعتراف بالجزائر وفي جميع أنحاء العالم بجودة منتجاتها، ونجحت حتى في منافسة العلامات التجارية الكبرى على أرضها بل وحاولوا وضع كل العقبات لكبح انتشارها.
ويرى المتحدّث أنّ المستهلك الجزائري استعاد الثّقة في علامته التجارية، مؤكّدا أنّ المنتج الجزائري أحسن بكثير من بعض المنتجات الأوروبية لأنّ الله حبا الجزائر بمقوّمات لا تتوفّر في دول أخرى، مستدلا بجودة بالخضر والفواكه التي لا يمكن مجاراتها فيها، موضّحا أنّ ما ينقصنا اليوم هو جلب المعرفة التي تبدأ من التغليف، مؤكّدا أنّ الشّراكة وحدها - على حد قوله - يجب المغامرة والعمل والتجربة وعدم الخوف من الخسارة، مشيرا إلى أنّه متأكّد أنّ كثيرا من المؤسسات كـ “المرجان” تعمل في الخفاء، ولم يسلط عليها الضوء فقط، وتنتظر الفرصة للبروز.
استثمــار ناجح بكل الأبعــاد
بدوره فاروق قاسي مسؤول التسويق بمؤسسة “برودالكس” المعروفة بإنتاج الخروب، وهي فرع شركة “بوبلينزا” الكائن مقرها بتلمسان، والتي تعمل على محورين الأول يتعلق باستزراع شتلات الخروب بهدف إعادة وتشجيع الفلاحين على غراسة شجرة الخروب من أجل إحياء هذه الفكرة، على اعتبار أنّ الجزائر كانت معروفة بأشجار الخروب خاصة في المناطق الشمالية وفي الجبال والمرتفعات، علما أنّ شجرة الخروب معمّرة ومثمرة ومربحة للفلاّح وصحية جدا، ما يجعل منها “شجرة..الماضي الحاضر والمستقبل”، لأنّ الاستثمار فيها مربح سيما مسحوق الخروب المتوفر كبديل للكاكاو، ما يشجّع الصّناعيّين على اقتنائه وبأسعار في المتناول.
وأوضح قاسي أنّ الشركة نجحت في تصدير مسحوق الخروب لـ 45 دولة عبر أربع قارات، ويحتلون المركز الثاني عالميا في تسويقه، مشيرا إلى أن طرح عينات منه بشكل دوري أثناء مشاركتهم في المعارض والصالونات بهدف تعريف المهنيين الجزائريين أكثر عليه، وهو ما جعل الكثير منهم على مدار ثلاث سنوات الأخيرة يطلبون مسحوق الخروب بعد تأكدهم من جودته، وأنه طبيعي 100 بالمائة بدون غلوتين وسعره مستقر ومتوفر، عكس سعر الكاكاو الذي ارتفعت أسعاره عالميا، وبالتالي المساهمة في خفض فاتورة الاستيراد، وهو ما يتماشى مع توجه الدولة في هذا الخصوص، ومن جهة أخرى التشجيع على إعادة التشجير في إطار إحياء مشروع السد الأخضر، فهو استثمار مربح متعدد الأبعاد.
وإلى جانب مسحوق الخروب بديل الكاكاو الذي يستعمل في المخبوزات، الحلويات والمرطبات في الجزائر، عملت الشركة على تطوير منتجات أخرى منها دبس الخروب الخالي من مادة “الغلوكوز” و«الغلوتين”، أي 100 بالمائة طبيعي، ومستخلص الخروب الذي نجحت من خلاله المؤسسة بالفوز بالمرتبة الأولى في مسابقة الابتكار “جائزإنوف” من بين أكثر من 500 مشارك وطني وأجنبي.
وأرجع المتحدّث تطور الإنتاج المحلي إلى المستهلك الجزائري، الذي تغيرّت ثقافته الاستهلاكية بتجاوزه عقلية الاستهلاك من أجل الاستهلاك، وأصبح يبحث عن كل ما هو طبيعي دون إضافات وملونات أو حوافظ وحتّى دون سكر لدرجة أنّ السعر أصبح لا يهمه أمام الجودة، فالأهم عنده اقتناء منتوج صحي لا يؤثّر على الصحة، سيما بالنسبة للذين يعانون من الأمراض المزمنة كالسكري والسيلياك، مشيرا إلى أن الشرط الأول للنجاح في نيل ثقة الجزائري هو الصدق مع الزبون بتوفير منتوج صادق، وابتكار منتجات أخرى طبيعية.
”سوسيمي”..استعادة التّراث الجزائري
من جهة أخرى، تسجّل علامة “سوسيمي” لإنتاج مادة الفرينة والسميد والكسكس والمعجنات حضورا قويا في السوق الوطنية منذ 25 سنة، بفضل جودة المنتجات التي تطرحها دوريا وتساهم في تلبية الاحتياجات الوطنية، ويؤكّد لطفي ليشاني مسؤول التسويق في هذا السياق، أنّهم في كل مرة يعملون على تحسين منتوجاتهم وخدماتهم، خاصة بعد تسجيل الإقبال الكبير على منتجاتهم.
وحسب ليشاني، فإنّ توجه المؤسسة يركّز على صحة المستهلك الجزائري لهذا فهي حريصة على تقديم منتجات بالقمح الصلب بعيدا عن أي إضافات أو ملونات، إلى جانب المعجنات بالقمح الكامل 100 ٪ لأنّها غنية بالألياف والملونات، وهي تستهدف الفئة التي تعاني من مشاكل هضمية، مشيرا إلى أنّ الكثير من الطهاة الأجانب سيما الايطاليين الذين تم استقدامهم لتجربة منتجاتهم قد فوجئوا بجودتها، واعتبروها ذات جودة راقية جدا مقارنة بما هو متداول في بلدانهم، ما يؤكد جودة المنتوج الوطني.
في المقابل أعادت الشّركة تثمين منتج الكسكس الحامل لوسم” بنة المفتول”، ليحاكي الطريقة التقليدية التي كان يحضّر بها في الماضي باعتباره طبقا تقليديا في الجزائر من خلال تجديد توضيبه في قالب جديد يبرز الهوية الجزائرية من أجل جعله الطبق الأول في الجزائر.
وأرجع المتحدّث تبوّء علامة “سوسيمي” لهذه المكانة إلى اعتمادهم استراتيجية للمستهلك الجزائري من خلال ضمان انتشارهم وتواجدهم ومشاركتهم في مختلف التظاهرات والمعارض من أجل معرفة الذوق المطلوب، والوصول إلى إرضاء شغفه حتى في غذائه، كما ركّزت الشركة على الابتكار وضمان التكوين المستمر لليد العاملة لمواكبة الاستثمارات في تجديد المكننة ومختلف الآلات المتدخلة في العملية الإنتاجية من أجل تحسين الجودة الجزائرية سواء من السوق المحلية أو عن طريق الاستيراد.
وحسب مدير التسويق، فإنّ المؤسسات الجزائرية الناشطة في مجال الصناعة الغذائية استعادت الثقة في نفسها وفي منتجاتها وبقدرتها على منافسة أي منتجات أوروبية، مشيرا إلى أن حتّى العادات الاستهلاكية للإنسان الجزائري تغّيرت من خلال قراءة مكونات المنتوج قبل اقتنائه.
ورافق ذلك مواكبة قطاع التكوين والجامعات ومختلف المعاهد لاحتياجات المحيط الاقتصادي من خلال تحيين منظومة التكوين والتخصصات، التي كانت تكتسب من خلال الخبرة أو عن طريق التمهين سابقا، بحيث أصبحت اليد العاملة الموجّهة للصناعات الغذائية تأتي مؤهّلة ومتحكّمة في التكنولوجيات والتقنيات المستخدمة في تسيير الإنتاج الغذائي، وهو ما ساهم في استقرار المؤسسات من حيث المورد البشري المؤهل وهو أمر أزاح الكثير من العقبات عن المؤسسة الجزائرية على قوله.
التّغليــف..المـرآة التّسويقيــة
وفي مجال التغليف والتعبئة، قالت صالحي سهام مسؤولة القسم التجاري بشركة “ديفلوباك” للتغليف، إنّ المؤسّسة تختص بتصنيع العبوات منذ سنة 2020، بمختلف الأنواع والأحجام والأشكال من خلال أكياس توظيب وتخزين بسحاب سهل الفتح أو ذات غطاء بلاستيكي على الجوانب أو مركزي، يتم تصنيعها حسب طلب العملاء وبمختلف الأوزان تبدأ من 10 غرام إلى 25 كلغ، وكذلك الأمر بالنسبة للمواد المستعملة التي تكون إما ثلاثية أو ثنائية.
وحسب صالحي، فإنّ منتجات شركة “ديفلوباك” موجّهة للمؤسسات الناشطة في مجال الأغذية الزراعية على غرار البهارات، الشاي، الأرز، الدقيق، الكريمة المخفوقة، المنكهات، الخميرة، رقائق الشوكولاتة، حيث يتم الحرص على ضمان منتوج يتلاءم وشروط حفظ جميع أنواع المنتجات حتى رقائق الشوكولاتة وحتى أكياس لحفظ طعام الحيوانات من خلال صنع أكياس أولية “كرافت” من ورق مع نافذة تسمح بظهور المنتج الذي بداخل الكيس للزبون، ناهيك عن أكياس “كرافت” شفّافة بسحاب عادي باللون الأبيض والبني أو الأكياس الشفافة وأكياس الألومنيوم والألومنيوم المعدنية الموجهة لحفظ الطعام جيدا.
وفيما يتعلق بتنوع منتجات الشركة، أكّدت مسؤولة القسم التجاري أنها تكون إما باقتراح من الزبائن، أو حسب ما هو معمول به في السوق الدولية، وفي بعض الأحيان يكون العميل تائها ولا يحسن اختيار النموذج الأمثل الذي يتلاءم مع الأغذية، سيما فيما يتعلق بالمادة لأنّ المنتج الغذائي هو منتج حسّاس على غرار الدقيق ودقيق الذرة الخالية من مادة “الغلوتين”، فهنا لابد من أكياس حافظة مكونة من ثلاث مواد تحمي المنتج من الرطوبة، الشمس والضوء.
وترى صالحي أنّ الطلب هو العامل الموجّه لعملية التصنيع، لهذا تحرص الشركة على استلهام كل ما هو جديد ومستحدث في هذا المجال، من خلال المشاركة في مختلف التظاهرات الاقتصادية سيما بالخارج من أجل اقتناء التكنولوجيات التي تساهم في الحفاظ على جودة المنتجات وإرضاء احتياجات العملاء، ويلبي تطلعات المستهلكين في إطار المسؤولية البيئية، وهو ما ساعد في ازدهار مجال التغليف والتوظيف بالجزائر، وهذا اقتناعا منها بأنّ طرح منتج بدون تغليف هو ناقص، فهو المرآة العاكسة له ويعطي صورة عالية الجودة للمنتوج، كما يضمن استدامة المنتج ويطيل من عمر صلاحيته.
وحسب المتحدّثة، نجحت الشركات الجزائرية في التحكم والنجاح في مجال التغليف والتعبئة وتقنياته، لمواكبة متطلبات الصناعيين في مجال الصناعة الغذائية، الذين أصبحوا يستثمرون أيضا في التغليف لمنتجات من أجل ضمان تسويق أمثل لمنتجاتهم، وإعطائها صورة عالية الجودة فهو استثمار في المنتوج والسعر والصورة.
التّفـاوض..حلقـة مهمّــة
من جهته، تحدّث المهندس أمين زهراوي عن أهمية تطوير المهارات التقنية من أجل تنوع تجاري أكبر، مشيرا إلى أنّه في صناعة الأغذية يتطلب الأمر تعاونا سلسا بين التكنولوجيا والمبيعات، لأنّ واقع التفاوض أو التوزيع يتطلّب إدارة محفظة العملاء، وهو تحدي كبير بالنسبة للمؤسسات، لهذا تبرز أهمية التكوين في هذا المجال للانتقال بالفنيين المدربين تدريبا علميا جيدا لكنهم غير مستعدين للتفاوض.
وحسب زهراوي فإنّ التكوين والتدريب يساعد في الانتقال بفنيي الشركات تدريجيا إلى الأدوار التقنية التجارية، من خلال تزويدهم بالمعايير والأساليب بإضفاء الطابع الاحترافي على التعلم، والابتعاد عن النهج التجريبي الارتجالي الذي يكون مرهقا وغير قابل للتكرار من خلال الانتقال إلى الممارسة المنظمة والممنهجة والفعالة للتواصل والتفاوض، وإدارة علاقات العملاء من أجل تعزيز مكانتهم لفهم الجوانب النفسية للمبيعات وكسبهم الثقة.