تدابــير ناجعة لاحتواء أزمــة ارتفـاع الأسعار في الأسـواق الدولية
تعديـل نصـوص وتشريعـات ذات صلة بالعقـار والماليـة والصـرف
نجح الاقتصاد الجزائري بمرحلة ما بعد جائحة كورونا، في تسجيل نمو تصاعدي بنسبة تراوحت بين 3.9 و4 % سنويا، وتعزّز استقراره وانفتاحه أكثر على مدار سنة 2024، بفضل ما أتاحته نصوص وتشريعات قانون الاستثمار الجديد من حوافز لتوطين مشاريع محلية وأجنبية.
تطابقت تقارير البنك الدولي وتصريحات مسؤوليه الإقليميين خلال سنة 2024، بشكل واضح مع الإحصائيات والأرقام الاقتصادية الهامة المقدّمة من طرف السلطات الجزائرية، التي راهنت منذ 5 سنوات على تحقيق إقلاع اقتصادي قوّي من خلال تشجيع وتحفيز الاستثمارات، وتنويع مصادر الدخل الوطني خارج قطاع المحروقات، وأفلحت في تجسيد هذا المخطط عبر إقرار جملة من التدابير الإصلاحية والإجراءات الناجعة، وتعديل نصوص وتشريعات ذات صلة بالعقار والمالية والصرف، بما يتماشى وتطبيق رؤية رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، الرّامية إلى النهوض سريعا بالاقتصاد الوطني وفكّ ارتباطه بالريع النفطي.
وقد تفوّقت السلطات العمومية في معركتها ضد مشكل التضخم في البلاد، وحدّت من انعكاسه السلبي على الاقتصاد الوطني، وتحييد أثره على القدرة الشرائية للمواطنين، وتمكنت من تقليص حجمه تدريجيا إلى حدود 4 % في سنة 2024، بعد أن تجاوز نسبة 9 % خلال عام 2023، كما أبانت وتيرة النمو الاقتصادي عن صيرورة مستقرة وتصاعدية في حدود 4 %، رغم حصول متغيّرات جيو-اقتصادية إقليمية ودولية خطيرة تدَاعَت على كل اقتصاديات العالم.
وللحفاظ على نسق نمو الاقتصاد الجزائري، أقرّت الحكومة في قانون المالية الجديد لسنة 2025م، الذي صادق عليه البرلمان بغرفتيه “المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة”، كثيرا من الإجراءات للحد من مشكل التّضخّم، وتدابير لاحتواء أزمة ارتفاع الأسعار في الأسواق الدولية، وذلك بغرض تقليل فاعليتهما على منظومة أثمان المواد المستوردة الأساسية، والنأي بالمنتجات الداخلية عن هذه العوارض السلبية، وتثبيت استقرار السوق المحلي لمدة أطول.
استنهاض البنى المنجمية
تكتسي مشاريع المناجم التي اُستهل استغلالها بتوجيهات من رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، أهمية كبيرة جداً للاقتصاد الوطني؛ لأنها ستكون دعامة فعلية لسياسة التنويع سارية المفعول، ومصدرا جديدا للدخل الوطني خارج قطاع المحروقات، لاسيما وأن الجزائر تريد الخلاص سريعا من التبعية للريع النفطي، عبر تكثيف استثماراتها ومشاريعها في مجالات حيوية أخرى غير البترول والغاز.
وتعتبر المناجم والمقالع في حدّ ذاتها قطاع استراتيجي في الجزائر؛ كونها تزخر بثروات ومقوّمات ضخمة منها، تتميز بسلاسة الاستثمار فيها، وقدرتها الكبيرة على المساهمة في تنويع عوائد العملة الصعبة، وإغداق الخزينة العمومية بموارد مستديمة، ولعلّ أبرز تلك الاستثمارات المنجمية يوجد منجم الحديد “غارا جبيلات” في ولاية تندوف، المسجل كأكبر منجم بشمال إفريقيا، يجري تنفيذه بشراكة مع صينيين، وسيترتّب عنه دور مهم في تنمية وفك عزلة الولاية الحدودية مع دولتي موريتانيا والصحراء الغربية الشقيقتين، وكذا دعم عمليات التصدير إلى الخارج بعد الإكتفاء داخليا من هذه المادة المعدنية.
وعلاوة على ذلك، جرى في بداية شهر نوفمبر سنة 2024، توقيع عقد يتضمن إنجاز منجم الزنك والرصاص بتالة حمزة -وادي أميزور في ولاية بجاية، وإنشاء مصنع للمعالجة خاص بهاتين المادتين.
كما أعطت السلطات في نفس الفترة، إشارة انطلاق استغلال منجم الفوسفات ببلاد الحدبة في ولاية تبسة، الذي سيدعم احتياطي الجزائر من الفوسفات والأسمدة الزراعية الموجّهة للاستخدام المحلي والتصدير إلى الخارج، مع توقع ضخّه لمداخيل هامة من العملة الصعبة للخزينة العمومية.
وقصد تقوية البنى التحتية وتمتين مسارات استغلال المناجم وباقي القطاعات الاقتصادية الأخرى، شرعت الجزائر في إنجاز مشاريع تنموية قاعدية نوعية جدا، مثل مشاريع خطوط السكك الحديدية جارية التنفيذ الرّابطة بين أقاليم البلاد، ويأتي في مقدمتها المشروع الذي يربط ولايتي وهران وتندوف ويمر عبر ولاية بشار بغية تسهيل استخراج معدن الحديد من غارا جبيلات، وكذا خط السكة الحديدية بين تبسة وعنابة.
الفلاحة عصب الاقتصاد
واصل قطاع الفلاحة الجزائري، في سنة 2024، مسار تطوّره وتوسّعه وترقية مختلف استثماراته بكل الشُّعب، مع الدفع بشكلٍ مطردٍ نحو استصلاح الأراضي في الجنوب الكبير، بغرض تكثيف إنتاج المحاصيل الإستراتيجية ذات الاستهلاك الواسع مثل القمح والشعير والذرة الصفراء والنباتات الزيتية والبقوليات بكل أصنافها وأنواعها، في خطوات هامة جدا يُرجى منها تقليص فاتورة الاستيراد، وتحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي محليا في الأمد القريب، وبالتالي تقليل الواردات وتحسين وضعية ميزان المدفوعات وتعزيز نمو الاقتصاد الوطني كلياً.
وتصبو السلطات من خلال توجهها لتطوير قطاع الفلاحة، إلى تحقيق اكتفائها الذاتي وأمنها الغذائي الشاملين، عبر توسيع استثماراتها الداخلية وتعميق شرَاكاتها الأجنبية في هذا المجال، على غرار توطين الاستثمار القطري الجزائري الفلاحي في ولاية أدرار، وإنجاز مشاريع العملاق الإيطالي “ماتيي” بولاية تميمون، فضلا عن الشراكة الاستثمارية الجزائرية السعودية في مجال إنتاج المحاصيل الزراعية الإستراتيجية بولاية المنيعة وغيرها من الاستثمارات الكبرى التي يجري تجسيدها على أرض الواقع.
وستشكل المشاريع الفلاحية قيد الإنشاء، بحسب خبراء، طفرة تنموية قطاعية هائلة في الأمد القريب، وسيساعد نجاحها في استقطاب أكبر للاستثمارات الزراعية الأجنبية بكافة أقاليم البلاد وخاصة بجنوبها الكبير، وهو ما سيؤدي إلى تحفيز أكبر لنمو الاقتصاد الوطني، وتعزيز كفاءته واستدامته في مواجهة مختلف التحدّيات الداخلية والدولية.
كما يتوقّع هؤلاء المتخصّصون، استقطاب استثمارات زراعية أجنبية جديدة في الجزائر بقادم الأشهر والسنوات، في إطار تنويع الشَّرَاكات الاستثمارية خدمة للمصالح الاقتصادية الوطنية الكبرى، وقد تمسّ إنتاج محاصيل النباتات الزيتية والسكرية التي أرهق استيراد خاماتها الخزينة العمومية، خصوصا مع تحقيق نتائج تقنية إيجابية ضمن تجارب زراعة تلك المنتجات في مختلف أقاليم البلاد شمالاً وجنوباً.
قطاعات إستراتيجية كثيرة شرعت الجزائر في استغلالها وتطويرها لا يسع المجال لذكرها جميعاً، ستساهم في تجسيد وتطبيق سياسة التنويع الإنتاجي المُنتهجة، وضمان نموّ قوّي ومستقر للاقتصاد الوطني في المنظور البعيد.
انفراجة العقار الاقتصادي
يرى الخبير المتخصّص في الشأن الاقتصادي، فريد مالكي، أن الجزائر تبنّت إستراتيجية للتنويع الاقتصادي قائمة على تشجيع الاستثمار وتقوية البنية الصناعية الداخلية، مرفقة بضبط وتوفير العقار الصناعي بغرض تسريع تجسيد استثمارات جديدة بمختلف الميادين الإنتاجية محليا، مشيرا أن هذا الأمر يساعد بالفعل على التحوّل من النموذج القديم للنمو إلى نموذج بديل قائم على تحقيق الاكتفاء الذاتي والتنمية المستدامة.
وأوضح مالكي في تصريح لـ«الشعب”، أن رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، اعتمد رؤية جديدة لتحقيق التنمية الاقتصادية في البلاد، من شأنها تمتين وترقية بُنى الإنتاج الداخلية، وتحفيز وضعية قطاعات أخرى غير بترولية، وتقوية منظومة الاقتصاد الوطني بشكل كلي بعيدا عن التعويل على الريع النفطي.
وأبرز محدّثنا، أن العقار الصناعي يعدّ أحد عوامل استقطاب المشاريع الاستثمارية المحلية وحتى الأجنبية، ارتأت السلطات تسويته وتطوير تسيير ملفه، بغرض توفير أماكن مؤهلة لاحتضان مشاريع المتعاملين الاقتصاديين، ومنه تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة والحد من التأثير السلبي للصّدمات والأزمات الخارجية المحتملة على بلادنا.
الجزائر حسّنت بيئة الاستثمار، وحرّكت عجلته بوتيرة متصاعدة خلال السنوات الأخيرة، بهدف التحرر من التبعية لقطاع المحروقات، وتنويع موارد الاقتصاد الوطني ومجالاته المحلية الإنتاجية المدرّة للثروة والعملة الصعبة، يقول فريد مالكي.
تفاؤل بتواصل النموّ
ومن جهته، أعرب رئيس مجلس الاستثمار والتعاون الدولي، اسماعيل حمروني، عن ارتياحه باستقرار وتيرة نمو الاقتصاد الجزائري خلال سنة 2024، مع قدرته على تحقيق أرقام إيجابية أكثر ارتفاعا في عام 2025، مضيفا أن المؤشرات الخضراء مسّت مختلف القطاعات الوطنية، وهناك إمكانية لنيل الجزائر المراتب الأولى اقتصاديا على المستوى القاري الإفريقي في السنوات المقبلة.
وأشار حمروني، في حديث مع “الشعب”، إلى أن العهدة الثانية للرئيس تبون، ستكون بمثابة فترة لتعميق الأثر الاقتصادي الإيجابي وجعله أكثر استدامة، وتحقيق التوازن بين القطاعات المحلية المنتجة، وإنهاء الهيمنة الطاقية على الاقتصاد الوطني عموماً، فضلا عن تثمين كل المؤهلات والإمكانات التنموية التي يحتويها ويتربع عليها الوطن.
ووفقاً للمصدر ذاته، تتطلب المرحلة القادمة مواصلة بذل الجهود لرفع قيمة الناتج الإجمالي الداخلي الخام وبلوغ الغاية من ذلك، لاسيما ما تعلق بتعزيز وضعية قطاعي الصناعة والفلاحة باعتبارهما مؤهلان لتحقيق الاكتفاء الذاتي في العديد من المنتجات الصناعية والغذائية، ويُنتظر منهما لعب دور رئيسي في رفع صادرات البلاد خارج المحروقات.
إلى ذلك، شكّل تعديل كثير من القوانين المرتبطة بالاقتصاد الوطني على غرار القانون النقدي والمصرفي، وقانون العقار الاقتصادي، عنصرا مساعدا مسرّعا في وتيرة تنفيذ وتجسيد الاستثمارات في شتى القطاعات داخل الجزائر، يذكر رئيس مجلس الاستثمار والتعاون الدولي إسماعيل حمروني.
للإشارة، توقّع مشروع قانون المالية لسنة 2025، استمرار الوتيرة التصاعدية لنمو الاقتصاد الوطني بتحقيق نسبة 4.5%، مع ارتفاع في الناتج الداخلي الخام للبلاد.