رؤيــة استشرافيــة متبصــرة
تعوّل السلطات العليا للبلاد اليوم على ترقية الاقتصاد الوطني، والرفع من قدراته بالتركيز على قطاعات استراتيجية قادرة على تحريك والتأثير بنسبة كبيرة على الاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة، وقد حدّد قانون الاستثمار وقوانين متكاملة أخرى هذه القطاعات لتسهيل التجسيد والرفع من الناتج الاجمالي مع خلق الثروة ومناصب الشغل وتحسين المحيط المعيشي للمواطن، يمكن تحقيقه والوصول إلى أعلى من هذه الأرقام إذا تمّ استغلال كل المقوّمات المادية والبشرية، وانخراط العنصر البشري الذي عليه أن يؤمن بالقدرة على تنفيذ هذه المشاريع. هذا ما توقّف عنده المختص في الاقتصاد الدكتور أحمد حيدوسي في حواره مع «الشعب».
الشعب: تتّجه الجزائر نحو حلقة جديدة من تاريخ نموها الاقتصادي التنموي من خلال مشاريع إستراتيجية كبرى أعلن عنها رئيس الجمهورية في التزاماته، ما هو تحليلكم لهذه الخطوة العملاقة؟
المختص في الإقتصاد أحمد حيدوسي: هناك العديد من المشاريع الاقتصادية الكبرى، والتي تمس العديد من القطاعات الاستراتيجية الهامة في البلاد سواء في قطاع التعدين على غرار مشروع غارا جبيلات في الجنوب الغربي الجزائري، والمشروع المتعلق باستغلال استخراج وتحويل الفوسفات في أقصى الشرق الجزائري، بالإضافة الى مشروع وادي أميزور ببجاية لاستغلال الزنك والرصاص، وأيضا قطاع البتروكيماويات نظرا لما تمتلكه الجزائر من امكانيات وموارد في المجال الطاقوي، وذلك من خلال برمجة مشاريع مهيكلة كبيرة على غرار مصفاة حاسي مسعود، والتعجيل في إنجازها لدخولها في آفاق نهاية 2026 أو بداية 2027 حيز الخدمة والإنتاج بسعة تقدّر بـ 5 مليون طن.
ولا ننسى مشروع آخر في مجال البتروكيماويات بالشراكة مع مجمع «بتروفاك البريطانية»، المتمركز في مدينة أرزيو في الغرب الجزائري لإنتاج البروليبيلان بسعة 505 ألف طن. وهو مشروع ذو قيمة مضافة ومداخيل معتبرة بالنظرإلى أسعار المواد التي ينتجها كالبلاستيك المرتفعة ومقارنة بثمن الغاز الخام، الأمر الذي سيحفّز حتما الذهاب إلى صناعات أخرى على غرار مشتقات البلاستيك والادوات البلاستيكية، وحتى قطع غيار السيارات المنتجة من مادة البلاستيك.
لابد من التطرق أيضا إلى مشروع ضخم آخر بالشراكة مع مؤسسة أجنبية، والمتعلق بإنتاج المواد الأولية الخاصة بمواد التنظيف، والذي سيسمح بتخفيض تكلفة الواردات ودعم الصناعة الوطنية من أجل التصدير، وسيمنح مواد التنظيف ميزة تنافسية في السوق الدولية.
ذكرتم قطاع التّعليم وقطاع الصّناعات البترو-كيميائية، كيف هي الرهانات الكبرى لتحقيق الأمن المائي والغذائي؟ وكيف يتم التركيز عليها؟
بالفعل تشمل المشاريع الاستراتيجية الكبرى أيضا قطاع الزراعة لما له من دور مهم خاصة في الظروف الحالية، حيث نلمس جليّا رغبة رئيس الجمهورية في تحقيق الأمن الغذائي وتطوير ورفع قدرات الإنتاج الفلاحي، ولذلك قدّم رئيس الجمهورية توجيهات إلى وزير الفلاحة ووزراء القطاعات المعنية بضرورة توسعة المساحات المزروعة حتى تصل إلى 3 ملايين هكتار في الحبوب، وكذلك التركيز على الزراعات أو الحبوب الزيتية بقصد التوجه نحو الصناعة التحويلية وكذلك زراعة البقوليات، وهذا ما سيسمح للجزائر بتخفيض فاتورة الواردات وتحقيق الأمن الغذائي.
وشهدنا كذلك مشاريع مهمة في هذا المجال تم إنجازها سواء بمؤسسات وسواعد جزائرية أو بشراكة مع مؤسسات أجنبية على غرار شراكة مع مجمّع «بي أف» الايطالي، ومساحة 36 ألف هكتار لإنتاج الحبوب وتحويلها الى عجائن، كذلك مشروع مع شركة «بلدنا» القطرية لإنتاج الألبان واللحوم وحتى الحبوب على مساحة أكثر من 100 ألف هكتار، ناهيك عن مشاريع متعددة أخرى.
وتسير الجزائر اليوم بخطى ثابتة نحو كسب رهان الأمن المائي، من خلال برنامج المحطات الخمس الجديدة لتحلية مياه البحر قيد الانجاز، مع الإعلان عن دخولها حيز الإنتاج في نهاية هذه السنة بقدرة 300 ألف متر مكعب لكل واحدة، أي مليون ونصف متر مكعب إجماليا.
كيف ترون الاهتمام الذي توليه اليوم السلطات العليا للبلاد بقطاع السّياحة، والسعي إلى تكثيف الاستثمار به والرهان عليه كمورد هام لتحقيق التنمية المستدامة خارج المحروقات؟
^^ يعوّل رئيس الجمهورية على قطاع السياحة من خلال وضع استراتيجية تمتد إلى غاية 2035، إضافة الى المخطط الوطني للتهيئة السياحية برفع قدرات الاستيعاب خاصة. وتتجسّد هذه الرؤية في بناء عدد كبير من الفنادق، وتطوير الخدمات والترويج للمقصد الجزائري مع تشجيع السياحة المحلية.
ولابد من استذكار مجال المؤسسات الناشئة، حيث تم تسجيل ما يقارب 7000 مشروع مؤسسة ناشئة، بينما كانت لا تتعدى ربما 200 في السنوات القليلة الماضية، ويطمح رئيس الجمهورية للوصول إلى عدد أكبر خلال السنوات القليلة القادمة، بالإضافة الى مشاريع أخرى في مجال قطاع البناء والأشغال العمومية والسكك الحديدية والموانئ وقطاعات حيوية أخرى.
ما هي الانعكاسات المباشرة لكبريات المشاريع الاستراتيجية على الاقتصاد الوطني والحياة اليومية للمواطن؟
لا يخفى على أحد أنّ رئيس الجمهورية يعوّل كثيرا على المشاريع الكبرى لرفع الناتج الإجمالي، كما أنّ لها تأثير كبير على ترقية وتطوير الاقتصاد الوطني، فبالإضافة إلى توفير مناصب عمل وتحقيق مداخيل معتبرة للخزينة الوطنية، فهي تخلق ديناميكية اقتصادية وقوية في كل جهات الوطن. وكون المشاريع متفرعة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، سيعود الأمر بالفائدة حتما على كل من الفلاح، الطبيب، الحلاق والتاجر..فالكل سيشتغل عندما توجد حركية وديناميكية اقتصادية، ولا ننسى النقل والاطعام والايواء فهي من المجالات التي ستستفيد بصورة مباشرة.
لا يمكن تجسيد أي مشروع اقتصادي دون وجود أرضية قانونية، فهل النّصوص التشريعية الموجودة لضبط وتقنين المشاريع الكبرى كافية؟
فعلا يوجد اليوم إلى جانب قانون الاستثمار القانون النقدي والمصرفي وقانون الصفقات العمومية، هناك أيضا القانون التجاري الذي سيصدر ربما خلال الأشهر أو الأسابيع القليلة القادمة، والذي من شأنه تنظيم قطاع التجارة، إضافة إلى بعض القوانين الصادرة مؤخرا كقانون المضاربة وقانون المقاول الذاتي وغيرها.
وسيتم على سبيل المثال بموجب القانون التجاري إعادة النظر في شروط الحصول على سجل تجاري خاصة مع التسريع الذي حدث بفضل اعتماد وتعميم الرقمنة، وفي اعتقادي سيتم تبسيط الاجراءات للحصول على صفة التاجر وعلى السجل التجاري في ظرف زمني قصير، ناهيك عن القانون التجاري الذي سيصدر ربما خلال الأشهر أو الأسابيع القليلة القادمة من شأنه تنظيم قطاع التجارة، مشكلا إضافة الى بعض القوانين الصادرة مؤخرا كقانون المضاربة وقانون المقاول الذاتي وغيرها.
كما سيتم إصدار قانون الجماعات المحلية الذي سيتماشى حتما مع التقسيم الإداري الجديد والتقسيم القادم الذي تحدث عنه رئيس الجمهورية، وعن إنشاء مناطق صناعية ومناطق نشاط جديدة تتناسب معه، وسيمكن هذا القانون الجماعات المحلية من أن يكون لها دور فعال في مسار النهوض بالاقتصاد الوطني أكثر من الدور الاجتماعي، لتصبح خلاقة للثروة وتقوم بنفقاتها، فما زال ثلثي البلديات تعاني من عجز لأن ميزانيتها تعتمد على خزينة الدولة.
لا يمكن الحديث عن نجاح استثمار أو مشروع ما بالاعتماد فقط على الوسائل المادية والتقنية لأنّ العنصر البشري يبقى هو اللبنة الأساسية التي نحتاج أن يستثمر فيها من باب التكوين وصقل الخبرات، هل تشاطرون هذا الرأي؟
^^ نعم صحيح تحدّثنا عن مشاريع مسجلة التي وظّفت لها موارد مالية بقيمة 26 مليار دولار، وستسمح بخلق حاليا أكثر من 200 ألف منصب عمل مباشر، والعدد قابل الارتفاع حسب برنامج رئيس الجمهورية والتزاماته للعهدة الثانية، لكن هذا لا يمنع من التركيز على الجانب البشري من خلال رفع قدرات التكوين وحتى ترقية ترتيب الجزائر على مستوى التنمية البشرية، اليوم قطاع التعليم العالي والبحث العلمي وقطاع التكوين والتعليم المهنين يعملان في هذا المنحى.
ونتحدّث هنا عن تقريب الجامعة من المحيط الاقتصادي وإصدار عده قوانين تنفيذية مع اتخاذ جملة من الاجراءات على غرار اعتماد شهادة مقاول أو مؤسسة ناشئة، إنشاء دار المقاولاتية والحاضنات على مستوى كل مؤسسة جامعية، وأكيد أن هناك توجه حتى على مستوى مؤسسات التكوين المهني لإنشاء دار المقاول فيها، وتشجيع الشباب خريجي هذه المؤسسات على الدخول إلى عالم المقاولاتية وإنشاء مؤسساتهم الخاصة قصد تحريك العجلة الاقتصادية، وتوفير مناصب عمل لهم ولغيرهم، والخروج من الاتكالية على الخزينة العمومية في توفير مناصب الشغل.
يترجم التقسيم الجغرافي لمناطق النشاط الصناعية والاقتصادية الجديدة ومواقع المشاريع الاستراتيجية الكبرى حرص السلطات العليا للبلاد على ضمان توازن التنمية عبر كامل التراب الوطني، ما هي القراءة التي يمكن إعطاؤها في هذا الشأن؟
إن لرئيس الجمهورية رؤية توازنية فيما يخص المشاريع الكبرى وتوزيعها على كافة أرجاء الوطن وفق إستراتيجية استشرافية متوازنة، يسعى من خلالها إلى توزيع الثروة بنفس القدر، وتدارك النقائص الموجودة لتأمين كل ظروف العيش الكريم لكافة شرائح المجتمع في كل أرجاء الوطن دون تمييز أو إقصاء.
وهذا هو التصور الذي تسعى الجزائر للوصول إليه، ويقوم به رئيس الجمهورية من خلال عهدته الاولى والثانية، بالاعتماد على الاستشراف، وهذ ما نلمسه في مشاريع آفاق 2030 و2035، التي تعتمد على الاستشراف ودقة المعطيات وعصرنة التفكير، فرئيس الجمهورية منذ اعتلائه سدة الحكم طرح نموذجا جديدا في الحوكمة يتعلق بمقاربة الإدارة بالأهداف، وشاهدنا ذلك من خلال قانون المالية الذي تغير من ميزانية الوسائل الى ميزانية الأهداف وذلك انطلاق من سنة 2023، وكنا قد سجلنا خلال اللقاءات الدورية لرئيس الجمهورية بالولاة، أين كان يطرح عليهم مجموعة من المشاريع والتوجيهات في كل لقاء، ويقول لهم إنه سيلتقي بهم بعد سنة ويحاسبهم على ما أنجزوه، حتى أنه قال إن مناصبهم مرتبطة بما أنجزوه خدمة للمواطن.
هذه المقاربة بالأهداف تضع اليوم إستراتيجية الاستثمار وتجسيد المشاريع الكبرى هدفا مرتبطا بجدول زمني، تسعى الحكومة لتنفيذه انطلاقا من الإمكانيات والقدرات الموجودة، وهذه هي الفلسفة اللي طرحها رئيس جمهورية من أجل الرفع من قدرات الاقتصاد الجزائري، والوصول إلى مراتب جد متقدمة إفريقيا ودوليا.
لذلك نقول إنّ تعهّد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون خلال حملته الانتخابية لرئاسيات 7 سبتمبر بالوصول إلى 400 مليار دولار ناتج إجمالي، وبلوغ نسبة عدد 450 ألف منصب عمل و12 % نسبة إسهام القطاع الصناعي في الناتج الإجمالي، يمكن تحقيقه والوصول إلى أعلى من هذه الأرقام إذا تمّ استغلال كل المقومات المادية والبشرية، وانخراط العنصر البشري الذي عليه أن يؤمن بالقدرة على تنفيذ هذه المشاريع.