رؤية شاملـة للسّلطات العليا في معالجة قضايـا الفســاد
في إطار جهودها المستمرة لاسترجاع الأموال والأملاك المنهوبة، أعلنت الجزائر مؤخرًا عن استرجاع ثلاث مؤسسات تعمل في قطاع الفلاحة والتنمية الريفية، وتحويل ملكيتها إلى مؤسسات عمومية. هذا القرار يأتي تنفيذًا لمخرجات الاجتماع الأخير لمجلس مساهمات الدولة المنعقد في 5 أوت الجاري، حيث تم الاتفاق على نقل ملكية هذه المؤسسات بعد صدور أحكام قضائية نهائية في قضايا فساد.
تشمل المؤسسات الثلاث شركة لإنتاج اللحوم البيضاء والبيض، التي تم تحويلها إلى مجمع “أغرولوغ” للصناعات الغذائية واللوجيستيك، وشركة متخصصة في إنتاج الأجبان تم إسنادها إلى مجمع “جيبلي” للحليب ومشتقاته، بالإضافة إلى شركة لإنتاج زيت الزيتون تم تحويلها إلى شركة تطوير الزراعات الاستراتيجية “ديكاس”. تأتي هذه الخطوة كجزء من استراتيجية الحكومة لتعزيز قطاع الفلاحة والتنمية الريفية وضمان استمرارية الإنتاج.
وفي هذا السياق، فإنّ قرار تحويل ملكية المؤسسات المتورطة إلى القطاع العام بدلاً من غلقها يعكس رؤية شاملة للسلطات العليا في معالجة قضايا الفساد. هذه الرؤية لا تقتصر على معاقبة المخالفين فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى إعادة هيكلة المؤسسات، والحفاظ على مناصب الشغل وتطوير القدرات الإنتاجية الخاصة بها.
وفي ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها الجزائر، يأتي هذا الإجراء كوسيلة للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، كما يتيح الإجراء المتخذ بتحويل ملكية المؤسسات للحكومة السيطرة على القطاعات الحيوية، وضمان استمرارية الإنتاج، وتجنب الانعكاسات السلبية لإغلاق المؤسسات على العمال والمجتمع ككل لاسيما وأن بعض المؤسسات توظف آلاف العمال والغلق الفوري سوف يكون له أثر سلبي على آلاف الأسر، فالعمال في هذه المؤسسات غالبًا ما يكونون الضحية الأولى لأي قرار بالإغلاق، ولذا فإن الحكومة تعمل على ضمان استمرار هذه المؤسسات تحت إدارة جديدة، مع الحفاظ على حقوق العمال وضمان عدم تأثرهم سلبًا.
ويرى العديد من المتابعين إن الجزائر، من خلال حربها على الفساد منذ 2019، لا تستهدف فقط تطهير البلاد من الفاسدين، بل تسعى أيضًا إلى بناء اقتصاد قوي ومستدام يحافظ على حقوق العمال ويعزز القدرات الإنتاجية. كما أن تحويل ملكية المؤسسات المتورطة إلى القطاع العام هو إجراء ذكي يجمع بين معاقبة الفاسدين، والحفاظ على النسيج الاجتماعي والاقتصادي. كما إنها خطوة تؤكد التزام الجزائر بمكافحة الفساد بشكل شامل، مع الحرص على حماية مصالح العمال والالتزام بالدور الاجتماعي للدورة باعتباره مبدأ دستوريا لا يمكن المساس به.
كما يمثّل قرار الجزائر بتحويل ملكية المؤسسات المصادرة إلى القطاع العام تجربة فريدة في سياق مكافحة الفساد، وقد يكون له انعكاسات إيجابية على الاقتصاد الوطني والمجتمع. ومع ذلك، فإن نجاح هذا الإجراء يتطلب تضافر جهود كافة الأطراف، وتبني سياسات اقتصادية واجتماعية داعمة.
رفــع القــدرة الإنتاجيــة
في السياق، يؤكّد الخبير في الاقتصاد عبد الرحمان هادف، أن استرجاع 23 مؤسسة المصادرة في إطار مكافحة الفساد من المساهمة سيمكّن من رفع من القدرة الإنتاجية، خاصة وأن الجزائر تعول على القطاع الصناعي ليصبح أحد روافد التموقع الاقتصادي، كما سيكون له أثر اجتماعي كبير من خلال التوظيف، حيث يتوقع استحداث الآلاف من مناصب الشغل.
أفاد هادف في تصريح لـ “الشعب”، أن عملية استرجاع المؤسسات في مختلف القطاعات في إطار مكافحة الفساد تحمل هدف استراتيجي يتمثل في أخلقة العمل في المنظومة الاقتصادية، وبالتالي إعادة الأمور إلى نصابها، وكذا لتحقيق الشفافية للوصول إلى الامتيازات والى الدعم المقدم من طرف الدولة لإطلاق المشاريع الاستثمارية، واعتبر أن هذا الإجراء سيساهم في تغيير الأمور مستقبلا، حيث يصبح الحصول على المزايا من خلال القانون أو التنظيم.
ويشدّد الخبير هادف أنه من الضروري أن تساهم المشاريع التي ستخلق من المؤسسات المسترجعة في النشاط الاقتصادي من خلال الإنتاج، ويتطلب ذلك تجنيد كل الأدوات الموجودة لدى الاقتصاد الجزائري الذي يشهد حركية، وذلك من أجل الرفع من أدائه، وقال إنّه يجب إعادة بعثها هذه المشاريع في العديد من القطاعات والمجالات من أجل المساهمة في الرفع من القدرات الإنتاجية في القطاع الصناعي او الفلاحي او في الخدمات (السياحة).
لفت الخبير إلى أن الجزائر في مرحلة تحول اقتصادي، وبالتالي تحتاج لكل المقومات والطاقات، ويرى أن هذه المشاريع ستكون لها مساهمة حقيقية فيما يتعلق بالرفع من القدرات الإنتاجية، والرفع من أداء الاقتصاد الجزائري، مشيرا إلى أن هذه المشاريع تمّ التكفل بها في مرحلة أولى من طرف شركة مساهمات الدولة من أجل إعادة النشاط في المؤسسات المصادرة والمسترجعة في أقرب وقت، واعتبر أن ذلك مهم جدا.
أضاف هادف في السياق، أن الاقتصاد الجزائري هو حاليا في مرحلة انفتاح، وهذا يعني ـ حسبه ـ أن هناك إمكانية عقد شراكات بين القطاع العام والخاص، وكذا إقامة استثمارات مع شركات أجنبية، ممّا سيسمح للاقتصاد الجزائري بالارتقاء الى مستويات أعلى، مشيرا إلى أنه يمثل كذلك الهدف الاستراتيجي الذي تم تسطيره من قبل رئيس الجمهورية والحكومة للوصول بالجزائر الى مرتبة اقتصادية أعلى، وإلى مصاف الدول الناشئة اقتصاديا، مما يفتح المجال أكبر لخلق الثروة، والرفع من نسبة النمو، وزيادة مستوى الناتج الخام المحلي.
كما أوضح المتحدث ان الجزائر من خلال عملية الاسترجاع لهذه المؤسسات، تبعث برسائل تؤكّد من خلالها أن أخلقة العمل في المنظومة الاقتصادية أصبح من الركائز، ويعتبره إشارة إيجابية على أن الاقتصاد الجزائري يكون ضمن الأطر القانونية، وأنه لا يوجد فيه مكان للتجاوزات والممارسات التي كانت من قبل، كما يؤكد في ذات الوقت أن هناك تحسين حكمة الشأن الاقتصادي في الجزائر.
واعتبر الخبير هادف أنّ الإسراع في دخول هذه المؤسسات مرحلة الإنتاج، كما شدّد على ذلك رئيس الجمهورية، سيكون له أثر كبير اجتماعيا من خلال التوظيف، حيث سيمكّن استحداث الآلاف من مناصب الشغل، وسيكون لذلك الأثر الإيجابي على المجموعة الوطنية، وسيمكن من تحصيل الضرائب والرفع من قدرات تصدير السلع والخدمات الى الخارج، وبالتالي تحسين أداء التجارة الخارجية، وذكر في هذا الإطار أنه لا يمكن تحسين الاطار المعيشي والوضع الاجتماعي بدون اقتصاد قوي، وهو الهدف المتوخى من قبل السلطات العليا للبلاد.