تعد مجازر 17 أكتوبر 1961 ضد الشعب الجزائري بباريس، رسالة واضحة من هؤلاء الشهداء لجيلنا من أجل أن يعتبر من التحولات الحاصلة، فالحفاظ على الوطن والتضحية في سبيل الله من أجل أن تبقى الجزائر شامخة مهما كانت الظروف والاختلافات هو ما يجب أن نتحدث عنه اليوم.
إن البحث في التاريخ ومحاولة استرجاع حق الشهداء أمانة في أعناقنا، و لكن الحفاظ على الوطن هدف أسمى وبتوصية من الشهداء أنفسهم الذين قابلوا الاستعمار وحاربوه لدحره وترك الشعب الجزائري يعيش في حرية من أجل أن يتقدم ويبني الحاضر ويكون ندا لكل القوى العالمية،لأن التمسك بالتاريخ ونسيان الحاضر والمستقبل سيكون إساءة كبيرة لمن ضحوا بأنفسهم وأموالهم .
إن الاحتفال بالذكرى كل سنة يجب أن يرتبط بإنجازات جدية نقرنها بالحدث حتى نعطيه أبعادا مستقبلية لأن تكرار الاحتفالات دون إنجازات كل سنة ليس له معنى.
إن التأمل في الحدث يجعلنا نتوقف عند الكثير من المعطيات التي يمكن أن نستغلها في حاضرنا فالدعوة للتظاهر من قبل فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا كان لها العديد من الأسباب فحقيقة المظاهرات الباريسية كانت موازية لمفاوضات ايفيان، حيث أراد الجزائريون الذي يعيشون في فرنسا الضغط على «دو قول» كما أنها جاءت تقريبا بعد سنة من مظاهرات 11 ديسمبر 1960 بعديد المدن الجزائرية والتي شكلت ضغطا رهيبا على فرنسا من خلال حشد ولفت انتباه الرأي العام العالمي الذي واصل الضغط على فرنسا.
ولقد أكدت المظاهرات تجذر الجبهة في نفوس الجزائريين واحترامهم الكبير لها فالدعوة للمظاهرات كانت من أجل الرد على القرارات العنصرية للحكومة الفرنسية التي فرضت حظر التجوال على المواطنين المنحدرين من شمال إفريقيا أو مسلمي فرنسا الجزائريين كما كانت تدعي السلطات الاستعمارية ليحدث ما يحدث بعد أن تولى السفاح «موريس بابون» رئيس شرطة – منطقة لاسان-باريس أمر المجزرة حيث تم رمي المئات من الجزائريين بدم بارد في نهر السين. وهو الذي كان وراء بث بيان حظر التجوال قائلا فيه في الخامس من أكتوبر/ 1961 «أن على جميع العمال الجزائريين عدم التجول ليلا في شوارع العاصمة باريس وضواحيها، تحديدا بين الثامنة والنصف مساء والخامسة والنصف فجرا كما أمر أيضا أصحاب المقاهي والجزائريين بإغلاق أبوابهم في السابعة مساء».
التاريخ يفضح التعتيم الفرنسي على المجازر
أكد المؤرخ الفرنسي «جيل مانسيرون في كتابه «الصمت الثلاثي إزاء المجزرة» عن الإجراءات التعسفية التي قامت بها فرنسا آنذاك، حيث فرضت رقابة كبيرة على الصحافة الفرنسية من خلال الغلق على مصادر المعلومات وكذا القيود الشديدة المفروضة على استغلال الأرشيف الخاص بتلك المجازر التي مازال يكتفنها الكثير من الغموض خاصة من خلال الكشف عن الإحصائيات الدقيقة لعدد الضحايا.
ونشرت دار الطباعة الفرنسية «لاديكوفرت» للمرة الأولى شهادات حية جمعها الصحافيان «مرسيل بيجو» و»بوليت بيجو» في كتاب تحت عنوان «17 أكتوبر بالنسبة للجزائريين» ويذكر هذا الكتاب بأعمال العنف التي استهدفت الجزائريين في فرنسا في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 عندما خرجوا في تظاهرات بباريس للمطالبة باستقلال الجزائر..
ونقلت الشهادة موقع فرانس 24 قائلا «ظل قمع تظاهرة 17 أكتوبر 1961 في باريس للجزائريين المطالبين بالاستقلال الذي قد يكون أسفر عن سقوط مئتي قتيل منسيا ثلاثين سنة مع أن الصحافيين مارسيل وبوليت بيجو جمعا شهادات دامغة تنشر لأول مرة..
وجمعت دار نشر «لا ديكوفرت» في كتاب واحد كل مخطوطات مارسيل بيجو (1922- 2005) وبوليت بيجو (1919- 1979) تحت عنوان «17 أكتوبر بالنسبة للجزائريين» متممة بمذكرة ودراسة سبق نشرها ونص للمؤرخ جيل مانسيرون تحت عنوان «النسيان الثلاثي لمذبحة».».
وأشارت نفس دار النشر «إلى أنه قبل خمسة أشهر من انتهاء حرب الجزائر «شهدت باريس أكبر مذبحة لأشخاص من الشعب منذ الأسبوع الدامي في 1871» في بلدية باريس.وقمعت الشرطة الفرنسية بأمر من مديرها موريس بابون عشرات الآلاف من المتظاهرين الجزائريين غير المسلحين، ما أسفر عن ثلاثة قتلى (حسب الرواية الرسمية آنذاك) وأكثر من مئتي قتيل حسب المؤرخين..
وظلت هذه المأساة «منسية» لثلاثين سنة مع أن البعض حاولوا التنديد بها، كما يشهد على ذلك النص الذي ينشر لأول مرة ويحمل في طياته شهادات حية لجزائريين، كان الكاتبان ينويان نشرها صيف «1962..
وكتب جيل مانسيرون، نائب رئيس رابطة حقوق الإنسان حتى 2011،» إن موريس بابون مدعوما بأعضاء الحكومة المعارضين لاختيارات الجنرال ديغول خلال المفاوضات الجارية لاستقلال الجزائر، هو من دبّر قمع التظاهرات وأعطى للشرطة رخصة للقتل».
وفي مقال نشر في جريدة «لوموند» بتاريخ 20 مايو 1998 وصف المؤرخ الفرنسي «جون لوك إينودي» رد الشرطة في تلك الليلة بـ(المجزرة) مما كلفه متابعة قضائية من قبل موريس بابون بتهمة (القذف) لكن تم رفض الدعوى من قبل المحكمة التي أقرت بمصطلح (مجزرة) مما يشكل منعرجا قضائيا هاما.
وجاء ذلك المقال في سنوات التسعينات وهي الفترة التي عاد الحديث فيها عن هذه الأحداث إلى الواجهة في إطار محاكمة موريس بابون (1997-1998) بتهمة المشاركة في جرائم ضد الإنسانية خلال الاحتلال الألماني، كما أكد شهود على مسؤوليته المباشرة في مجازر 17 أكتوبر.
واعترف المؤرخ اينودي لأول مرة تم تقديم حصيلة أثقل سنة 1991 من الجانب الفرنسي خلال إصداره لـ»معركة باريس 17 أكتوبر 1961»، حيث تطرق إلى 200 قتيل تم إحصاؤهم على أساس أرشيف جبهة التحرير الوطني وشهادات أخرى وبالنسبة لفترة سبتمبر-أكتوبر 1961 أعطى المؤرخ عدد 325 قتيل من بين الجزائريين. بعد أن كانت بعض الأقلام الاستعمارية تتحدث عن عدد قتلى يتراوح بين 2 و 50 قتيل في أقصى التقديرات.
وقد دفعت بشاعة المجازر بمؤرخين بريطانيين «جيم هوز» و»نايل ماك-ماستر» لأن يكتبا في «الجزائريين الجمهورية ورعب دولة» الذي صدر سنة 2008 أن الأمر يتعلق «بأعنف قمع دولة لم تسببه أبدا من قبل مظاهرة شارع بأوروبا الغربية في التاريخ المعاصر».