سمعت الكثير من الكلام قبل بدأ رحلتي إلى عين أمناس، بعضه أرفق باستغراب وعلامات استفهام كبيرة، وآخر بالتخويف، لم أكن لأرد على هؤلاء كل حسب الجواب الذي يقنعه، لكني اكتفيت بالقول لهم طالعوا أعداد «الشعب»، فقد كان ذهني في تلك اللحظة خاليا من أي إجابة لأني حقيقة كنت أجهل ما ينتظرني، لكن في قرارة نفسي كنت أدرك أن الجزائر التي خرجت منتصرة من عشرية سوداء، أجهضت خلالها عدة مخططات وعمليات إرهابية بجهود فردية حينما أدار العالم ظهره لها، ليست عاجزة اليوم- وقد اشتد عودها- عن حماية مواطنيها ورعاياها، ولا يمكن لها أن تنحني أمام هجمة إرهابية معزولة استعرضت فيها جماعات مسلحة قواها «الخائرة» بعد التضييق عليها ومحاصرتها في جحورها، في محاولة منها لاستقطاب الرأي العالمي، ولفت الأنظار إليها خاصة وأنها أصبحت تفقد يوم بعد يوما رؤوسها المدبرة وجماعات الدعم والإسناد في عمليات نوعية واحترافية قام بها أفراد الجيش الوطني الشعبي، في عدة مناسبات، ولعل آخر عملية بولاية إليزي والتي تم القضاء خلالها على ثلاثة إرهابيين واسترجاع كمية هامة من الأسلحة لدليل على ذلك.
بدل الاستمرار في نقاش عقيم، والخوض في المجهول رحت أركز جهدي في البحث عن إنسان موثوق يكون دليلي ومرشدي في عين أمناس، و يعمل على وصل حبل الاتصال بيني وبين السلطات المحلية والأمنية هناك، حتى تنجح مهمتي، لأنه من الصعب في الجزائر أن تعثر على من يمدك بالمعلومة الصحيحة بسهولة، أو تجد البساط مفروشا إلى مصدرها...فشلت بعد يومين من الاتصالات المكثفة في إيجاده، فالكل كان خائف هناك، مثلما اخبرني به أحد الأصدقاء من ولاية ورقلة بعد أن أوكلت له مهمة الاتصال بمعارفه بالمنطقة، حتى المسؤولين من أعلى مستوى ممن إلتجئت إليهم لم يفلحوا في العثور على دليل، أما الولاية فتلك مأساة أخرى، بعد اتصالات عديدة مع موزع الهاتفي لإمكانية الوصول إلى الوالي أو رئيس ديوانه عدت خاوية الوفاق فالوالي ظل مشغولا طيلة ذلك اليوم على حسب قول المكلفة بالرد على موزع الهاتف، في حين ظل هاتف رئيس الديوان يرن دون أن يجد من يرفع السماعة ليجاوب على اتصالاتنا المتكررة...لا يهم «فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرا لكم»، ومادام أن تذكرة السفر قد قطعتها ووجدت مكانا ضمن رحلة للخطوط الجوية الجزائرية انطلاقا من مطار هواري بومدين، يوم الجمعة ١٨ جانفي ٢٠١٣، ومادام أنني تمكنت من حجز غرفة في الفندق الوحيد بالمنطقة، لم يعد يهمني من الأمر شيئا، سوى الوصول إلى المنطقة لنقل الصورة الحقيقية عن واقعها، التي تستمر الحياة فيها رغم محاولات يائسة لإغراقها في الفوضى واللاستقرار من طرف جماعات الموت.
تأخر رحلة 3 ساعات يحبس الأنفاس
في المطار الداخلي، تردد على مسمعي نفس الحديث ...من عامل الخطوط الجوية إلى شرطية الحدود «تذهبين إلى عين أمناس، والناس يعودون منها»، «الوضع خطير جدا»، لم أعر تلك الكلمات أي اهتمام، في وقت راحت زميلتي من التلفزيون تنصحني عبر الهاتف بأخذ الحيطة والحذر، والالتجاء إلى أفراد الجيش الشعبي الوطني في حال وقوع أي طارئ...في تلك الأثناء عاد إلى ذاكرتي شيئا مهما كان رئيسي في القسم الوطني قد منحني رقم أحد أبناء المنطقة يشتغل بمؤسسة إعلامية عمومية، أنقذني من حيرتي التي تضاعفت بعد أن قيل لي أنه لن يسمح لكي بدخول المنطقة كصحفية، ليس من باب منعي من أداء مهمتي، وإنما كإجراء احترازي لتأمين الوافدين، كانت كلماته كالماء حينما ينزل على أرض عطشى فيرويها بعد جفاف طويل، «انتظرت اتصالك من أمس، أخبرني حكيم أنك ستأتين لكن لم يؤكد لي الخبر»، وكيف الحال عندكم هل من جديد؟، أسأله، بخير الحمد لله وهل صحيح أنه لن يسمح لي بالدخول إلى المنطقة؟ لا من قال لك هذا كنت أنا بالأمس هناك، واليوم عدت إلى إليزي وقد تركت زميل لي والمصور، رفقة مجموعة من صحفي الإذاعة والتلفزيون، على كل أخبريني متى تصل الطائرة وسأتصل بصديق لي يأتي للتكفل بك، ودعته بعد هذه الجملة على أمل أن تختزل الطائرة المسافة بين الجزائر العاصمة وعين أمناس، وأصل لينتهي كل هذا العناء.
في الوقت الذي اعتقدت أن الأمور انفرجت، ارتفع صوت موظفة بالمطار الجزائر الداخلي، تعلن تأجيل الرحلة المقررة إلى عين أمناس في الساعة الـ٢٠١٤ بعد الظهيرة، إلى الساعة ال٠٠١٥ مساء، وهنا ارتفعت تساؤلات المسافرين، عن الأسباب التي أدت إلى تأجيل الرحلة، وإذا كان لها علاقة بالوضع الذي تعرفه المنطقة؟ وكادت هذه الفرضية تسيطر على عقول الكثير منا، خاصة بعد أن تم الإعلان مجددا عن تأجيل ثاني للرحلة إلى غاية ال٠٠١٦ مساء، فيما تخوف البعض الآخر من إلغاءها بعد أن وردت أخبار بتدخل أفراد الجيش الوطني الشعبي إلى قاعدة الحياة البترولية لتحرير المحتجزين من قبل الجماعات الإرهابية التي احتلت المكان منذ الأربعاء الماضي.
موظفة الاستعلامات أرجعت سبب تأجيل الرحلة، إلى امتلاء أرضية مطار عين أمناس بالطائرات الأجنبية التي جاءت لتجلي مواطنيها المصابين في الإعتداء الجبان، وما على مسؤولي المطار إلا انتظار التعليمات للترخيص للطائرة بالإقلاع، وهنا ازدادت حيرتنا وبدأ الخوف يتسرب إلى نفوسنا بإمكانية إلغاء الرحلة، لنتنفس الصعداء بإعلان موظفة المطار عبر مكبر الصوت عن انطلاق الرحلة الموعودة وكانت الساعة تشير إلى ال١٥١٦ مساء، لكن سرعان ما اصطدمنا بتأخير آخر حينما صعدنا الطائرة وأخذ كل منا مكانه، تأخير دام ساعة كاملة وقد برر مضيفو الطائرة السبب بعدم تلقي قائد الطائرة الإذن بالتحليق، لتنطلق أخيرا وعقارب الساعة كانت تشير إلى ال٢٠١٧ مساء.
لم يكن الجو العام في طائرة ٦٠٠-٧٣٧ق يوحي بارتباك المسافرين ولا خوفهم مما ينتظرهم في منطقة قيل عنها الكثير، فأكثر من ٤٠ مسافر أغلبهم من العاملين في الشركات البترولية وقطاعات أخرى على غرار التعليم والبناء فضلوا الإلتحاق بمناصب عملهم، رغم أن عملية تنظيف المنطقة من الجماعات الإرهابية لم تنه بعد.
وأكد و.ج عامل في شركة بناء خاصة، يعمل بعين أمناس منذ ٢٠١٢، أن الخوف لم يعرف طريقا إلى نفسه، لأنه يعلم جيدا أن مصالح الأمن بمختلف وحداتها ساهرة على تأمين حياة الأشخاص والممتلكات، فضلا عن أن الجزائر تملك جيشا محترفا، سبق له وأن تعامل مع مثل هذه العمليات بحكمة وعقلانية، «صحيح أنه ليس لديا خيار آخر سوى الإلتحاق بمنصب عملي، لكني متأكد أن هناك عيون ساهرة تحمي الوطن» لذا سأستمر في عملي إلا إذا تطورت الأحداث فيما بعد وطلب منا إخلاء المنطقة.
أما أمال .ح ٢٥ سنة، فلم يثن عزمها ما كانت تسمعه من أخبار عبر وسائل الإعلام تحدت جميع الصعاب من أجل أن تلتحق بمنصب عملها كأستاذة في مادة اللغة الفرنسية في ثانوية عين أمناس، قالت أنها تزور المنطقة لأول مرة وقد شجعتها عائلتها المقيمة بتيزي وزو على الالتحاق بهذا المنصب، بعد معاناة مع البطالة، «لم تخفني الأحداث، وبالنسبة لي لم يحدث شيء ومساعدتي لأبناء المنطقة لتعلم اللغة هدفي الأسمى خاصة وأنهم يعانون من نقص حاد في أساتذة هذه المادة».
وحسب أمال من يخاف لا يمكن له أن يتقدم أو يتحدى الصعاب مهما فعل.
من جهته، ش.ح موظف في قطاع المحروقات بعين أمناس، منذ ٣ أسنوات أكد أن إلتحاقه بمنصب عمله هو من أجل حماية مصالح الجزائر، مشيرا إلى أن الأمن يقوم بدوره وأنه ليس خائفا مما يقال عن تردي الأمن واللاستقرار المزعوم، كما أن هذا الحادث الأول من نوعه في المنطقة ووقوعه لا يعني أنه لا يوجد أناس حريصين على أمنها.
واستبعد ع. ه مهندس متخصص في معالجة الرواسب، أن يؤثر هذا الحادث على أداء العمال والمؤسسات الناشطة في المنطقة، مؤكدا وجود مصالح خاصة تتولى تقديم الحماية الكاملة لجميع العمال العاملين في الحقول البترولية بما فيهم الأجانب.
قتل 12 إرهابيا، وإلقاء القبض على 3 آخرين
عندما حطت الطائرة في مطار عين أمناس، كانت الساعة تشير إلى السابعة مساء الظلام لف المكان، وأضواء شحيحة كانت تأتي من المباني البعيدة التي تظهر أنها لتجمعات سكنية، أرضية المطار كانت مملواءة عن آخرها بطائرات عسكرية يظهر أنها من بين الآليات التي استعملها قوات الجيش الوطني الشعبي في القضاء على الجماعات الإرهابية التي احتلت قاعدة الحياة البترولية ٤٠ كلم عن منطقة عين أمناس، وداخل المطار كانت مجموعات من العمال الأجانب فرادى وجماعات بدى من ملامحهم أنهم يابانيين، وأميركيين، تقربنا للحديث إلى البعض لكنهم رفضوا الإدلاء بأي تصريح واكتفوا بالقول أن التعليمات تقول هكذا، فيما راح أفراد الشرطة يدقون في هوياتنا قبل أن يسمحوا لنا بمغادرة المكان في اتجاه فندق العرق الموجود بوسط المدينة، في وقت كانت تشير آخر الأخبار وفق مصادر إعلامية محلية إلى القضاء على ١٢ إرهابيين، فيما سلم واحد نفسه، وتم القبض على ٣ آخرين، في حين حولت ١١ جثة لعمال أجانب إلى مستشفى المنطقة، واحد أمريكي، ٣ بريطانيين، و٦ لم يتم التعرف عليهم نظرا لتفحمهم.