تشهد الدبلوماسية الجزائرية تحولات استراتيجية متسارعة في علاقاتها مع الفضاء الأوروبي، وذلك في إطار مسعى واضح لبناء شراكات متوازنة تقوم على السيادة الوطنية والمصالح المتبادلة، بعيدًا عن منطق التبعية الذي ساد في فترات سابقة. ويرى النائب البرلماني والخبير الاقتصادي، البروفيسور عبد القادر بريش، أن هذا التوجه الجديد يكرّس استقلالية القرار الجزائري، ويؤسس لمرحلة جديدة في السياسة الخارجية ترتكز على تنويع الشركاء وتجاوز الحصرية الفرنسية التي هيمنت لعقود على علاقة الجزائر بأوروبا.
في مقال تحليلي، أكد البروفيسور بريش عبر «الشعب»، أن الجزائر بصدد تحرير علاقاتها الأوروبية من الإرث الاستعماري الفرنسي، مشيرًا إلى أن الدولة باتت تتحرك بمنطق الفاعل وليس برد الفعل، وهو ما يظهر من خلال تعميق علاقاتها مع قوى أوروبية كبرى مثل إيطاليا وألمانيا، اللتين أصبحتا تمثلان نموذجًا لشراكة استراتيجية جديدة. وسجل بريش أن الجزائر «تخلّصت من علاقتها التاريخية غير المتوازنة مع فرنسا، ومن النظرة الكولونيالية التي طبعت تعامل باريس مع الجزائر منذ الاستقلال(...). واليوم، تؤسس لعلاقات جديدة تتجاوز الروابط الثقافية واللغوية، نحو شراكات استراتيجية متوازنة، تنبني على قاعدة رابح- رابح، بعيدا عن التوظيف السياسي والتاريخي لماضٍ استعماري لم تُنهِ باريس فصوله بعد».
شراكة جزائرية- إيطالية متعددة الأبعاد
في هذا السياق، أشار الخبير إلى أن زيارة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إلى روما، في يوليو 2025، شكّلت محطة مفصلية في تطور العلاقات الجزائرية- الإيطالية، حيث توّجت بأكثر من 40 اتفاقية تعاون شملت مجالات الطاقة، الصناعة، الأمن الغذائي، الثقافة والسياحة، إلى جانب التكوين البشري. واعتبر بريش، أن هذه الشراكة تعبّر عن رؤية متكاملة قائمة على الاستدامة والندية، موضحًا أن إيطاليا باتت تُدرك الوزن الجيوسياسي والطاقوي للجزائر، فيما تنظر الجزائر إلى روما كـ»شريك صادق» غير مقيّد بأي أجندة سياسية أو تاريخية.
الرواق الألماني.. رهانات صناعية وانتقال طاقوي
أما ألمانيا، القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، فترى في الجزائر -بحسب بريش- شريكًا استراتيجيًا يعزز أمنها الطاقوي في أعقاب أزمة الغاز الروسي، خاصة في مجالات الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر. ولفت إلى أن الجزائر تسعى من خلال هذا التعاون، إلى مرافقة انتقالها الصناعي والتكنولوجي، خاصة في قطاعات السيارات الكهربائية والصناعات التحويلية، وهو ما يعكس طابعًا براغماتيًا يُميز هذا المحور، ويجعله رهانًا جيوسياسيًا مستقبليًا.
نحو مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي
وفي ضوء هذه التحولات، شدد بريش على ضرورة إعادة التفاوض بشأن اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، الموقع عام 2005، معتبرًا أن بنوده الحالية لا تعكس أولويات الاقتصاد الجزائري ولا تضمن التوازن المطلوب في المصالح. وأضاف، أن الجزائر تطالب باتفاق جديد يكرّس العدالة الاقتصادية ويمنح فرصًا حقيقية لنقل التكنولوجيا والاستثمار المنتج، عوض أن يظل مجرد أداة لإغراق السوق الجزائرية بالبضائع الأوروبية، وقال: «الاتفاق الحالي لم يعد يعكس واقع الاقتصاد الجزائري، ولا يأخذ بعين الاعتبار أولويات التنمية الوطنية، الجزائر تطالب باتفاق جديد يكرس التوازن في المصالح».
دبلوماسية متعددة الأقطاب وشراكات متوازنة
ويؤكد بريش، أن السياسة الجزائرية الجديدة تقوم على تنويع الشراكات والانفتاح على قوى صاعدة مثل الصين، روسيا وتركيا، إضافة إلى الدول الإفريقية والعربية. هذه الرؤية لا تُقصي أحدًا، لكنها تؤسس لموقع مستقل للجزائر كـ»فاعل متوازن» في الضفة الجنوبية للمتوسط، ومزود طاقوي موثوق ومحور استقرار إقليمي.
آفاق واعدة للعلاقات الجزائرية- الأمريكية
وفي معرض تحليله، أشار بريش إلى التطور اللافت في العلاقات الجزائرية- الأمريكية، سواء على صعيد التنسيق السياسي في القضايا الإقليمية، أو في ملفات الطاقة والأمن. واعتبر أن تصريحات كبار المسؤولين الأمريكيين، وعلى رأسهم المستشار الرئاسي بولوس، تعكس تقدير واشنطن للدور الجزائري في إفريقيا والعالم العربي، وترسم آفاقًا لشراكة اقتصادية وعلمية واعدة.
الجزائر قطب سيادي مستقل
ويرى بريش، أن الرؤية الاستراتيجية للجزائر في أفق 2030 تقوم على استثمار مزاياها الجغرافية والطاقوية، وتثمين رأسمالها الدبلوماسي، لتتحول إلى قطب إقليمي مستقل القرار، متعدد الأبعاد.
الجزائر، كما يقول، لم تعد مجرد جسر بين إفريقيا وأوروبا، بل تمضي بخطى واثقة نحو بناء شبكة علاقات دولية تُراعي سيادتها ومصالحها العليا.
واختتم البروفيسور بريش مقاله، بالتأكيد على أن الرواق الإيطالي- الألماني، إلى جانب التقارب مع الولايات المتحدة، يمثل ملامح محور جديد تعيد من خلاله الجزائر تشكيل فضائها الاستراتيجي وتموقعها الفاعل في عالم متعدد الأقطاب، أكثر تعقيدًا وتنافسًا من أي وقت مضى.