ندّية.. احترام متبادل وتحقيق متكافئ للمصالح المشتركة
في لحظة دبلوماسية مهمة، قام رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بزيارة رسمية إلى إيطاليا، تميّزت ببرنامج سياسي واقتصادي مكثّف، أبرز خلالها الرؤية الجديدة التي تنتهجها الجزائر في علاقاتها الخارجية، والتي تقوم على قاعدة الندية، الاحترام المتبادل وتحقيق المصالح المشتركة.
كان في استقباله الرسمي الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، ثم رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، في مشهد يعكس ليس فقط المكانة التي باتت تحتلها الجزائر في الضفة الجنوبية للمتوسط، بل أيضًا الاحترام الكبير لشخص رئيس الجمهورية الذي يقود تحولًا دبلوماسيًا متزنًا وفعّالًا.
خلال أشغال القمة الحكومية الثنائية الجزائرية– الإيطالية في دورتها الخامسة، بدا واضحًا أن رئيس الجمهورية حضر ليس لتكرار ما قيل في مناسبات سابقة، بل لتكريس فلسفة جزائرية جديدة في الشراكة الدولية، تقوم على تحويل علاقات التعاون إلى آليات ملموسة للإنتاج والتنمية والاستقرار. في هذا السياق، جاءت تصريحاته خلال الندوة الصحفية المشتركة مع نظيرته الإيطالي، لتؤكد هذا التحول، حيث أكد على أن «الجزائر وإيطاليا تعملان على تعزيز علاقتهما التاريخية لتشمل كل مجالات التعاون الممكنة، لاسيما الموارد المائية، الزراعة المستدامة، الصناعة، النقل، الطاقات المتجددة والتعاون العلمي».
وتحليلًا لهذا التصريح، يتبين أن رئيس الجمهورية أراد تجاوز الصورة النمطية للعلاقات الجزائرية- الأوروبية، التي لطالما كانت محصورة في ملف الطاقة، لينقلها إلى فضاء أوسع يُبنى على التكامل لا التبعية. فاختياره الدقيق للقطاعات (الزراعة، الصناعة، العلم، النقل)، يعكس تصورًا متكاملًا للاقتصاد الوطني، حيث تسعى الجزائر إلى الاستفادة من الخبرة الإيطالية في التسيير والتكنولوجيا، دون أن تفرّط في سيادتها على القرار التنموي.
في سياق متصل، أكد رئيس الجمهورية على «التقارب الكبير في وجهات النظر بين البلدين حول عدد من القضايا الإقليمية والدولية»، وهو تصريح يكتسي أهمية استراتيجية، خاصة أنه أتى في مرحلة تشهد فيها المنطقة تحولات جيوسياسية كبرى. وقد أرفق الرئيس هذا التصريح بموقف صريح بخصوص القضية الصحراوية، حيث شدد على «دعم الجزائر للمسار الأممي والشرعي لحل النزاع وحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره». هذا الموقف، في حضرة دولة أوروبية مؤثرة في الاتحاد الأوروبي مثل إيطاليا، يكشف بوضوح أن الجزائر لا تساوم في مبادئها، حتى في أوج توسع علاقاتها الاقتصادية، بل تسعى لبناء تحالفات على قاعدة احترام المواقف الثابتة.
علاوة على ذلك، فمنتدى الأعمال الجزائري– الإيطالي، توج بتوقيع العديد من الاتفاقيات في مجالات اقتصادية، صناعية، أمنية وعلمية. وهي اتفاقيات تعكس من جهة ثقة الشريك الإيطالي في مناخ الاستثمار الجزائري، ومن جهة أخرى رغبة الرئيس تبون في نقل البلاد إلى مرحلة ما بعد الريع، بتوسيع خارطة الشراكات وتحرير المبادرات الوطنية.
والأرقام تدعم هذا التحليل، فوفق بيانات رسمية، تجاوز حجم المبادلات التجارية بين البلدين 14 مليار يورو عام 2024، إضافة إلى وجود أكثر من 150 شركة إيطالية تنشط في السوق الجزائرية. كما استوردت إيطاليا ما يزيد عن 35% من احتياجاتها من الغاز من الجزائر، مما يجعلها أول شريك طاقوي لها، متقدمة على روسيا والنرويج.
في هذا الإطار، يرى الدكتور منصوري عبد القادر، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، في تصريح لجريدة «الشعب»، أن زيارة تبون إلى روما «تمثل انتقالًا نوعيًا في منطق التعامل الجزائري مع أوروبا. فقد كان الخطاب الجزائري تاريخيًا حذرًا ومتوجسًا من الشراكات الشمالية، غير أن الرئيس تبون يدرك أن التوازن في العلاقات لا يُفرض بالشعارات، بل يُبنى بالثقة، والاستقلالية، وتنوع البدائل. ما يحدث اليوم مع إيطاليا هو ترجمة عملية لفكر السيادة الاقتصادية دون قطيعة سياسية». ويضيف: «ما يميّز هذه الزيارة هو الحضور الشخصي القوي للرئيس تبون في كل الملفات، حيث يقود بنفسه المشاورات، ويطرح مقاربة تنموية وسياسية شاملة، لا تنحصر في الطاقة أو الأمن، بل تمتد إلى التعليم، الرقمنة، الفلاحة، وهي رسالة للداخل والخارج أن الجزائر لم تعد بلد الفرص الضائعة».
واللافت أيضًا، أن التصريحات التي أدلى بها تبون خلال هذه الزيارة، حملت نبرة براغماتية واضحة، فهو لا يتحدث من موقع الإملاء ولا الخضوع، بل من موقع الشريك الند، وهو ما أشار إليه ضمنيًا حين تحدث عن «علاقات رابح–رابح»، وعن «ضرورة احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية»، وهو ما يمكن اعتباره تجديدًا صريحًا للثوابت الجزائرية ولكن بلغة جديدة تتماشى مع متطلبات العالم الراهن.
وفي المحصلة، لا يمكن النظر إلى زيارة الرئيس تبون إلى إيطاليا باعتبارها مجرد قمة حكومية ثنائية، بل ينبغي قراءتها كتتويج لمسار من العمل الاستراتيجي الذي يستهدف إعادة تموقع الجزائر كقوة إقليمية وفاعل متزن في جنوب المتوسط. والزيارة تحمل في طياتها رسالة مفادها، أن الجزائر الجديدة لا تُبنى فقط بالخطابات، بل برؤية رئاسية واعية، تعرف كيف توفّق بين ثوابت الهوية ومتطلبات العصر، وكيف تحوّل الجغرافيا إلى فرصة، والتاريخ إلى دعامة، والسيادة إلى منطلق لشراكة حقيقية لا تُقصي أحدًا ولا تفرّط في شيء.