مبادرة “المقاول الذاتي”.. وتقنـين تجارة “الكابة”.. وجه آخر لمرافقة الشباب والبطالين
اكتناز الأموال خارج المنظومة البنكية خطر هيكلي يمس قلب الاقتصاد الوطني
رسم رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، في لقائه الدوري مع وسائل الإعلام، ملامح رؤية اقتصادية متدرجة وعقلانية تجاه واحدة من أعقد الإشكاليات التي تطبع الاقتصاد الوطني، وهي الاقتصاد الموازي. وبعيدًا عن التصريحات الصدامية أو المقاربات الزجرية، شدد الرئيس على ضرورة زوال هذا الاقتصاد غير الرسمي، لكن دون اللجوء إلى القوة أو الإجراءات السالبة للحرية، مؤكدا أن الهدف ليس قمع الظاهرة، بل تنظيمها ضمن منظومة الاقتصاد الوطني. ولعل هذا الطرح يُجسد إرادة سياسية واضحة ترفض الحلول السهلة وترمي إلى معالجة جذرية تراعي طبيعة الاقتصاد الوطني، وتستند إلى أدوات الإدماج لا الإقصاء.
قدم رئيس الجمهورية جملة من المؤشرات التي تعكس تطور سياسة الدولة في هذا الاتجاه، لاسيما من خلال تقنين عدد من النشاطات التي كانت تصنف سابقا ضمن الاقتصاد الموازي، مثل تجارة “الكابة”، والتي أدرجت تحت مظلة الاستيراد الموجه للأشخاص أو ما يُعرف بالاستيراد المصغر. هذه السياسة، التي تبدو للوهلة الأولى إجراءً إداريا، تحمل في طياتها تحولا جوهريا في النظرة إلى بعض أشكال التجارة غير النظامية، من خلال سعي الدولة إلى تحويلها إلى أنشطة قانونية خاضعة للضريبة وقادرة على خلق مناصب شغل وتقليص نسب البطالة، لاسيما في مناطق الظل والهامش.
علاوة على ذلك، تندرج مبادرة “المقاول الذاتي” في الإطار نفسه، حيث أتاحت للأفراد النشطين خارج الأطر الرسمية، فرصة الانخراط في الاقتصاد القانوني ضمن آليات مرنة وبشروط ميسرة. وهو ما يفتح المجال أمام فئات واسعة من المجتمع، كانت مستبعدة من دوائر التمويل والتأمين الاجتماعي، إلى التحول التدريجي نحو العمل المنظم، ما ينعكس إيجابا على مؤشرات النمو ومداخيل الدولة.
وقد أشار الرئيس تبون إلى نتائج ملموسة بدأت تلوح في الأفق، من بينها ارتفاع عدد المؤمَّنين اجتماعيا بشكل ملحوظ، وهي إشارة قوية إلى أن جزءا كبيرا من الاقتصاد الموازي بدأ يجد طريقه نحو النور، بفضل سياسات التشجيع والتحفيز بدل الزجر والعقاب.
في سياق متصل، أثار الرئيس تبون إشكالية عميقة لا تقل أهمية عن الاقتصاد غير الرسمي، وهي مسألة اكتناز الأموال خارج المنظومة البنكية. وقد وصف هذه الظاهرة بأنها خطر هيكلي يمس قلب الاقتصاد الوطني، لاسيما حين يتعلق الأمر بأموال طائلة تفوق المليارات من الدينارات الجزائرية تُدار خارج الدورة الاقتصادية الرسمية. هذا الاكتناز، بحسب الخبراء، يُساهم بشكل مباشر في ارتفاع أسعار المواد ويغذي مستويات التضخم، فضلا عن خلق أزمة سيولة خانقة داخل القطاع البنكي، تحد من قدرته على تمويل الاستثمار الحقيقي.
في هذا الإطار، أكد الدكتور عبد العالي سعدان، أستاذ الاقتصاد الجزئي في تصريح “للشعب”، أن ظاهرة اكتناز الأموال خارج الجهاز المصرفي تُعد من التحديات الكبيرة التي تعيق النمو الاقتصادي والاستقرار المالي. وأوضح، أن هذه الظاهرة تخلق اقتصاداً موازياً ضخماً يحرم الدولة من مبالغ هامة كانت ستستغل في الاستثمارات المنتجة، وبالتالي فإن استمرار هذه الظاهرة يؤدي إلى إضعاف القدرات التمويلية للاقتصاد الوطني، ويعرقل تنفيذ المشاريع الاستراتيجية.
بالإضافة إلى ذلك، يشير الدكتور سعدان إلى أن جهود الدولة الرامية إلى إدماج الاقتصاد الموازي لا يمكن أن تُؤتي أكلها إلا ضمن إستراتيجية شاملة تتكامل فيها الأبعاد التشريعية والرقابية مع إجراءات استعادة الثقة، على غرار ضمانات الشفافية، وتسهيل التعاملات البنكية، وتوفير بيئة اقتصادية تنافسية وعادلة. وهنا تبرز مرة أخرى مقاربة رئيس الجمهورية، التي تبتعد عن المنطق العقابي وتراهن على تحفيز الفاعلين الاقتصاديين نحو الانخراط الطوعي في المنظومة الرسمية.
كذلك، لا يمكن تجاهل الأثر الإيجابي لهذا التوجه على الجباية العمومية. إذ تشير بعض التقديرات إلى أن الاقتصاد الموازي يشكل ما بين 40 إلى 50٪ من النشاط الاقتصادي العام، وهو ما يمثل كتلة مالية ضخمة غير خاضعة للضرائب أو التأمينات الاجتماعية. وتحويل جزء معتبر من هذه الكتلة إلى الاقتصاد الرسمي من شأنه أن يرفع من الإيرادات الجبائية للدولة دون الحاجة إلى فرض ضرائب جديدة أو اللجوء إلى التمويل غير التقليدي، وهو ما يصب في صميم مساعي الدولة لتحقيق التوازنات الكبرى للمالية العمومية.