ملابس، حقائب، أحذية تحمل الراية الأجنبية ...ظاهرة تصادفك في كل شوارع العاصمة، شباب يرتدون قمصانا وسراويل مرسوم عليها العلم البريطاني أو الأمريكي، الفرنسي وغيره... آخرون يضعون في سياراتهم علبا ورقية على شكل الراية البريطانية ،...هواتف مغلفة بها وكأنها اليد الحارسة التي تحميه من الانكسار، بل الأدهى والأمر أنه تعدى إلى الأواني وكل شيء يمكن استعماله في الحياة اليومية. من هؤلاء الذين يتبعون هذا السلوك ولهذا «الشعب» رصدت المشهد من خلال هذا الاستطلاع.
اقتربت «الشعب» من بعض هؤلاء الذين لا يجدون حرجا في اقتناء هذه السلع على اختلافها فقط من أجل التباهي أمام أقرانهم بعلم يمثل سيادة ووطن غريب عنا بل هو في بعض الأحيان يقف في الجانب الآخر منا.
بريطانيا حلمي الذي لم يتحقّق
@ «أمين ـ ش»، شاب يبلغ من العمر 20 سنة طالب بجامعة الجزائر كلية آداب، وجدناه بساحة «اودان» مع زملائه الذين يفضلون ارتداء ألبسة تحمل راية أجنبية ....فقد اختاروا العلم البريطاني ليكون أجمل زينة موجودة على ملابسهم، وأهم موضة لهم، سألنا «أمين- ش» عن سبب الإقبال الكبير على مثل هذه السلع فقال: «أرى في الملابس التي تحمل الراية البريطانية جمالا خاصا فهي إلى جانب أنها تمثل الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس مثلهاقيل أيام زمان، هي كذلك تضيف للشيء سحرا وجاذبية ....فألوانها تزاوج بين الأحمر والأبيض والأزرق مرسومة بخطوط مستقيمة جميلة جدا، لذلك أينما تضعه يعطي إضافة للشيء، ..»، وأكثر من ذلك يضيف «امين- ش»: «يسألني الجميع من أين اشتريتها سواء كان قميصا أو سروالا ،...وحتى الفتيات يجدنني وسيما عندما ارتديها»، ثم يضيف قائلا: «لا أظن أن ارتداء مثل هذه الملابس تجرح وطنيتي أوحبي لبلدي، لأنني أفتخر بجزائريتي، لا يجب أن نعطي الأمر أبعادا أكبر من حجمها لا يمكن إن نحصر وطنيتنا في ملابس أو علبة مناديل ورقية...، إنها موضة نسايرها وفقط.»
«جمال - ص» بائع في مركز تجاري ببرج البحري، يقول عن الظاهرة: «في الحقيقة، تعرف الملابس التي تحمل العلم البريطاني والأمريكي إقبالا منقطع النظير من طرف المراهقين والشباب، ففي أغلب الأحيان تنتهي تلك السلع في وقت قياسي، العلم البريطاني والأمريكي يجعل القميص ذي قيمة أكبر وكم طلبت منه الثمن يدفعه الزبون» .
«وعن سبب هذا الإقبال أضاف: «يرى الشباب في ارتداء ملابس تحمل راية أجنبية نشوة خاصة لأن معظمهم يحلم بالعيش تحت هذه الراية، فوق أراضيها فهم يمنون النفس بما توفره لهم الظروف والواقع الذي يعيشون فيه، وربما يعكس ذلك الإعجاب الكبير بهذين الدولتين اللتين تمثلان أكبر قوتين في العالم أجمع».
واستطرد «جمال-ص»: وقد استوقفني ما قام به أحد الزبائن إحدى المرات بما أخبرني به ...حيث قال إن بيع مثل هذه السلع حرام، مؤكدا أن ما جاء به سمعه في خطبة ألقيت يوم الجمعة، فما كان عليّ سوى الامتناع عن بيع مثل هذه السلع لما يقارب الثلاثة أشهر، ولكن مع مرور الأيام وجدت زبائني يهجرون محلي لأنني لا أبيع تلك السلع، فاضطررت العودة إليها لأنها تدري عليّ الربح الكثير ولأنها سبب مباشر في إقبال الزبائن ووفائهم لمحلي».
...بين سحر الراية ورموزها؟؟؟
«سامية – ش»، 25 سنة، موظفة في إحدى المؤسسات الخاصة، التقيناها في شارع ديدوش مراد، لفت انتباهنا الغلاف التي تحمي به هاتفها النقال، فلم يكن سوى العلم البريطاني، سألناها عن سبب اختيارها له رغم وجود خيارات كثيرة أمامها فأجابت»: استعملته لأنه الأجمل بين كل الخيارات الموجودة بل أعطى هاتفي النقال أناقة خاصة أشعر بها عندما أمسكه والدليل على ذلك أنني ألاحظ اهتمام الجميع به و يسألونني من أين إقتنيته، ثم هي راية بلد هو مثال للتقدم والتطور، أعتبره الحلم الذي أريد تحقيقه يوما، لأنه الأفضل في اعتقادي».
وأضافت «سامية ـ ش» قائلة: أتعجّب من تلك التعليقات التي أسمعها هنا وهناك، خاصة تلك التي تطعنني في وطنيتي، الأمر لا يتعدى إعجابي بشكل وجمال الراية البريطانية وحتى تلك الخاصة بالولايات المتحدة. ولكني أتحفظ من استعمال هذه الأخيرة بسبب مواقفها الراهنة، و لكن لا يعني ذلك أنني أؤيد الأشخاص الذين يرفضون تقبل الأمر على أنه سلوك عادي فكما أحب اللون الأزرق أو ارتداء السراويل أحب أن يزين قميصي بعلم بريطانيا العظمى، وللأمانة نقول أنهم الأجدر بالاحترام فهم ملكوا العالم بالعلم».
«رضا ـ ع»، أستاذ ثانوي، يقول عن الانتشار الكاسح للراية البريطانية وسط الشارع الجزائري: «أتساءل كثيرا عندما أرى أحدهم مرتديا قميصا يحمل الراية البريطانية، أو يضع مناديل ورقية في السيارة، إن كان يعلم ما ترمز إليه هذه الراية، فعَلم المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية يعود لسنة 1801 أين اتحدت بريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية، وهي مكونة من صليب أحمر للقديس جورج (شفيع انكلترا) محاط بإطار أبيض الذي يشكل صليب القديس باتريك (شفيع أيرلندا الشمالية)، بالإضافة إلى صليب قطري بشكل إشارة أكس (x) الذي يكّون صليب القديس أندرو (شفيع اسكتلندا)، وهذا يتعارض تماما مع معتقداتنا وأعرافنا وتقاليدنا،... ألم يطرح أي شخص من هؤلاء سؤالا عن سبب جهل البريطانيين للعلم الجزائري، ولما لا يعرف ربع الانتشار الذي يعرفه العلم البريطاني في الجزائر».
خلل في تكوين الشخصية
للتعرف أكثر على هذه الظاهرة التي أصبحت منتشرة بين الشباب، سألنا الأستاذة فكراش الأخصائية الاجتماعية فقالت: «الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة راجعة إلى الشخصية التي نشأ عليها الشاب، فهو يعبر هذا السلوك عن الفراغ الذي يعيشه بسبب غياب القيم التي تصنع منه شخصا واعيا وملما بكل ما يدور من حوله». وأضافت فكراش قائلة: «هشاشة الشخصية جعلته يرتبط بالدول التي يراها المثال الأول للتطور والتقدم لذلك يميل إلى كل شيء يراها فيه، ما يجعله يركض وراء العلامات التي ينتجونها، والسلع التي تحمل رايتها»، ولعلّ الجميع - على حد قولها - لاحظ الإقبال الذي لاقته في الشهور الأخيرة، لدرجة أننا أصبحنا نجدها في كل السلع.... مرآة صغيرة، أدوات مدرسية، ملابس، أغلفة الهاتف النقال، حقائب، أدوات منزلية، علب مناديل ورقية وأشياء أخرى كثيرة.
وقالت الأخصائية الاجتماعية، «هذا الإنتشار يعكس الإقبال الكبير لمختلف الفئات العمرية على هذه السلع الهوة والفراغ الذي أصبح يعيشه شبابنا، حتى يشعر المرء بالذهول ،.... بصفة خاصة الراية البريطانية التي تكاد تكون الأولى عند محبيها».
وأوضحت السيدة فكراش في سياق حديثها، أن مثل الصور التي نشاهدها في حياتنا اليومية تعكس الانسلاخ الذي يعيشه الشباب، وأزمة الهوية التي أصبحت ضعيفة أمام إغراءات الدول المتقدّمة، هذا الضعف مرتبط بتكوين الشخصية في فترة الطفولة، فالخلل في بنائها أثناء هذه المرحلة يخلق خللا في فترة المراهقة ليصبح فراغا ظاهرا في مرحلة الشباب يتجلى في مثل هذه السلوكات، تجده ضعيفا مولعا بالقوي، ما يفسر شغفهم بالدول المتقدمة التي يرونها الجنة التي تتحقق على أراضيها كل الأحلام، غياب الوعي زاد الطين بلّة وجعل الراية البريطانية تحاصر المواطن في كل مكان، فأينما أدرت وجهك رأيتها في أي شيء يمكن أن توضع عليه.