الجزائر المنتصـرة والساحـل الإفريقـي

رؤية أمنيـة استراتيجيــة وإقليمية شاملــة..

علي مجالدي

 مبـادئ الجزائـر.. التزام مع الساحـل كفضــاء تكاملـي يستدعي شراكـة شاملــة

 التكفّـل الذاتـي بالتحديــات الأمنيـة ورفــض منطق الاستقـواء بالخـارج

 الجزائـر تقــوم بدورهـا المحــوري رغمـــا عـن محـاولات التشويــش والعـزل

 تصــوّر شامـل يربـط الأمـن بالتنميـة ويُخضــع العمـل الإقليمـي لميـزان السّيــادة والتكامـل

 في لحظة إقليمية فارقة ومعقّدة، يتقاطع فيها الأمن مع التنمية، وتتصارع فيها مشاريع النفوذ الأجنبية مع آمال شعوب الساحل الإفريقي في الاستقرار، جاءت كلمة الفريق أول السعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، خلال إشرافه على ملتقى وطني تحت عنوان “الساحل الإفريقي: التحديات الأمنية والتنموية في ظل التجاذبات الجيوسياسية”، لتشكّل إعلاناً استراتيجياً يرسّخ تموقع الجزائر كقوة ضامنة للاستقرار الإقليمي، وفاعلاً مؤسّسياً يمتلك رؤية متكاملة تتجاوز المقاربات العسكرية الضيقة نحو تصور شامل يربط الأمن بالتنمية، ويُخضع العمل الإقليمي لميزان السيادة والتكامل.

أدركت الجزائر مبكّرًا أنّ منطقة الساحل الإفريقي ليست مجرّد حزام حدودي هشّ يفرض تأمينه بوسائل القوة التقليدية، بل هي مجال استراتيجي تتقاطع فيه المصالح الدولية، وتُختبر فيه قدرة الدول الإفريقية على استعادة زمام المبادرة بعيدًا عن التدويل والانقلابات. من هذا المنطلق، فإنّ الكلمة الافتتاحية للفريق أول شنقريحة لم تكن برأي مراقبين خطابًا بروتوكوليًا، بل بيانًا سياسيًا وعقائديًا في آنٍ واحد، يعيد التأكيد على المبادئ المؤسّسة للعقيدة الأمنية الجزائرية، ويوضّح موقع الجزائر ضمن معادلة جيوسياسية تسعى أطراف عديدة لإعادة تشكيلها بالقوة أو بالوكالة.
وفي هذا الإطار، شدّد الفريق أول على أنّ الجزائر، الملتزمة بمبدأ عدم التدخّل واحترام السيادة، لا تتعامل مع دول الساحل كعمق حدودي فحسب، بل كفضاء تكاملي يستدعي شراكة شاملة. ولذلك، لا تكتفي الجزائر بتقديم الدعم العسكري، بل تضطلع بدور مركزي في مرافقة هذه الدول في برامج التكوين، والمساعدات الإنسانية، وتمويل مشاريع تنموية ذات بعد إقليمي، بما في ذلك تلك الموجّهة لتحسين ظروف العيش وقطع الطريق أمام الجماعات المسلحة، التي تستغلّ هشاشة البنى التحتية والهجرة القسرية.
وفي سياق متصل، ذكّر الفريق أول بدور لجنة الأركان العملياتية المشتركة (CEMOC)، التي أنشأتها الجزائر سنة 2010، كآلية إقليمية للتنسيق الأمني بين الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا، قائلاً إنّ هذه اللجنة تُجسّد مبدأ “التكفل الذاتي بالتحديات الأمنية” وترفض منطق الاستقواء بالخارج، وهو ما يتناقض مع التوجهات الراهنة لبعض القوى، التي تسعى لتحويل الساحل إلى ساحة نفوذ واختبار ميداني لمفاهيم “الأمن بالوكالة”.
الخطاب الموجّه في الملتقى لم يكن دفاعياً، بل استشرافيًا، فبالرغم من حملات التشويش ومحاولات عزل الجزائر، إلاّ أنها تواصل القيام بدورها المحوري في ظل رؤية متبصّرة يقودها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، القائد الأعلى للقوات المسلحة وزير الدفاع الوطني، لاسيما وأنّ الجزائر قد أكّدت أكثر من مرة أنّ أمن الساحل لا يتحقّق إلّا بتمكين الشعوب من السيادة، وإعادة الاعتبار للمسارات السياسية والدستورية، خاصة في دول مثل مالي والنيجر، التي اهتزت بفعل الانقلابات والفراغ المؤسّساتي.
كذلك، ما يميّز المقاربة الجزائرية أنها ليست ردّ فعل على تهديدات آنية، بل مشروع استراتيجي طويل الأمد. لاسيما وأنها لا تطرح نفسها كقوة وصاية، بل كشريك مسؤول يسعى لتعزيز مناعة الدول الشريكة بدل التسلّل إلى نسيجها السيادي. ومن هذا المنطلق، فإنّ تمسك الجزائر برفض التدخل العسكري المباشر، وتفضيلها آليات الحوار والتكامل، يعكس نضجًا سياسيًا يُحسب لها، في وقت باتت فيه القوى الأجنبية تتنقل بين القواعد العسكرية والمليشيات والمرتزقة كبقايا الحضور الفرنسي، الذي فقد شرعيته الشعبية في العديد من بلدان الساحل.
بالإضافة إلى البُعد الأمني، سلّط الفريق أول الضوء على البعد الإنساني والاقتصادي، خاصة وأنّ الجزائر قدّمت مساعدات إنسانية ملموسة لسكان الساحل، وموّلت مشاريع تنموية من خلال الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي، وذلك انطلاقًا من إيمانها بأنّ الاستقرار لا يُشترى بالسلاح، بل يُبنى بالتعليم والصحة والبنى التحتية. وهي رؤية تتقاطع مع ما قاله وزير الخارجية أحمد عطاف خلال نفس الملتقى، بأنّ الجزائر تملك “من الحزم ما يمكّنها من تخطي الصعاب، ومن الإيمان بوحدة المصير الإفريقي ما يدفعها دوماً إلى مدّ يد العون والتضامن”.
استراتيجياً، يمكن القول وفق مراقبين إنّ الجزائر المنتصرة تتموقع اليوم كضامن استقرار إقليمي لا يمكن تجاوزه، لا بحكم موقعها الجغرافي ومواردها البشرية والمادية فقط، بل بفضل شرعيتها التاريخية ومقاربة لا تزال وفية لمبادئ باندونغ، وتسعى إلى بناء نظام إقليمي إفريقي قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
وفي ظل مؤشّرات مقلقة، مثل ازدياد الهجمات الإرهابية بنسبة 70 بالمائة في منطقة الساحل خلال السنوات الأخيرة، حسب تقارير الأمم المتحدة، وتصاعد التنافس بين القوى الأجنبية في مالي والنيجر، فإنّ من مصلحة شعوب المنطقة أن يُستمع لصوت الجزائر، لا باعتبارها قوة طموح، بل باعتبارها قوة مسؤولة تمتلك ما يكفي من الرؤية والرّصانة لقيادة تحول حقيقي في فهم الأمن الإقليمي.
كلمة الفريق أول شنقريحة في هذا الملتقى لم تكن مجرّد توصيف للتحديات، بل خارطة طريق لمقاربة جزائرية ناضجة للأمن والتنمية في الساحل. مقاربة تؤمن أنّ الاستقرار لا يُفرض، بل يُبنى، وأنّ إفريقيا لا تحتاج لمن يُملي عليها حلولًا جاهزة، بل لمن يسير معها بندّية نحو استعادة زمام المبادرة. وفي هذا السياق، تظل الجزائر، بمؤسّستها العسكرية والدبلوماسية، عنصرًا لا غنى عنه في معادلة الساحل..لا بالوصاية، بل بالشراكة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19860

العدد 19860

الأربعاء 27 أوث 2025
العدد 19859

العدد 19859

الثلاثاء 26 أوث 2025
العدد 19858

العدد 19858

الإثنين 25 أوث 2025
العدد 19857

العدد 19857

الأحد 24 أوث 2025