يأتي قرار الجزائر الأخير، باعتبار عددا من موظفي السفارة الفرنسية بالجزائر أشخاصًا غير مرغوب فيهم، كممارسة سيادية مشروعة، ويُعبّر في جوهره عن موقف متوازن، يحترم الأعراف الدولية، لكنه لا يقبل أن يُقابل هذا الاحترام بسياسات مبنية على الكيل بمكيالين أو توظيف القانون في سياقات سياسية ضيقة.
في خلفية هذا القرار، تبرز أزمة أعمق من مجرد خلاف دبلوماسي، تتصل بمدى استعداد الطرف الفرنسي– أو بعض مكوناته، تحديدًا وزير الداخلية– للالتزام الجاد ببناء علاقة نديّة مع الجزائر؛ ذلك أن ما حدث لم يكن معزولًا عن محيطه السياسي، بل يعكس مناخًا داخليًا في باريس تحكمه توازنات غير مستقرة، تُنتج سلوكًا متذبذبًا في ملفات كان يُفترض أن تُدار بحذر ومسؤولية. توقيف موظف قنصلي جزائري من طرف المصالح الفرنسية، دون احترام لما تقتضيه الاتفاقيات الدولية، لا يطرح فقط مسألة قانونية، بل يكشف بوضوح أن من يقود هذا المسار ليس صوتًا دبلوماسيا هادئًا، بل طرفًا محسوبًا على دوائر يمينية تغلّب منطق المواجهة على منطق الشراكة. في هذا الإطار، يوضّح الدكتور منصوري عبد القادر، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في تصريح لـ «الشعب»، أنّ «الرهان اليوم لا يتعلق فقط بخرق بروتوكولي أو اعتداء على موظف، بل بمستوى فهم النخبة السياسية في فرنسا لطبيعة الجزائر الجديدة، التي تجاوزت مرحلة التردد في الرد، وأصبحت تفرض معادلة قائمة على الاحترام الفعلي لا الرمزي، وتُدرك أن توازن العلاقات لا يُبنى إلا حين تتساوى الإرادات».
والجزائر بتفعيلها مبدأ المعاملة بالمثل، لا تنساق وراء انفعال ظرفي، بل ترد بما تقتضيه الواقعية السياسية وحماية السيادة. وهذا الموقف، رغم بساطته الإجرائية، يحمل أبعادًا استراتيجية، إذ يُعيد ضبط الإيقاع مع باريس، ويذكّر أن الجزائر لا تفرّط في الضمانات القانونية التي تحكم تحركاتها وتحمي ممثليها.
كذلك، فإن هذا الرد يقطع الطريق أمام محاولات تمرير رسائل سياسية تحت غطاء قضائي، وهي ممارسة أصبحت أكثر تكرارًا في علاقات بعض الدول مع شركائها حين تتغلب منطقية الملفات الداخلية على التزاماتها الدولية. علاوة على ذلك، فإن ما يجري لا يمكن فصله عن الوضع السياسي داخل فرنسا ذاتها، حيث تشتدّ المنافسة بين أجنحة مختلفة، يتبنى بعضها رؤية براغماتية لعلاقة متزنة مع الجزائر، فيما لا يخفي البعض الآخر عداءه الصريح ووزير الداخلية روتايو يعتبر «الـمُخرِّب» لكل تقارب ويعمل على تعطيل أي انفتاح من شأنه أن يُعيد تشكيل توازنات جديدة في الضفة الجنوبية للمتوسط. فالجزائر، بحضورها الإقليمي واستقرار مؤسساتها، تمثل في نظر البعض معادلة يجب إضعافها أو تحجيمها، سواء لحسابات انتخابية أو بإيعاز من مصالح إقليمية متضررة من استقلال القرار الجزائري.
بيان وزارة الشؤون الخارجية -في هذا السياق- لم يكن سوى نقطة توضيحية في مسار سياسي أكبر، تتعامل فيه الجزائر مع المعطيات بأدوات متعددة، تجمع بين التمسك بالمشروعية الدولية، والقدرة على التصرف الحازم عندما تُخرق هذه المشروعية.
وبين مسعى لبناء علاقات متكافئة، ومحاولات لتعطيل هذا المسعى من داخل فرنسا ذاتها، تبرز الجزائر كدولة تعرف جيّدًا متى تتحلى بالصبر ومتى ترد بما يليق بمكانتها ومصالحها.
كما أن البيان لم يكتف بسرد الواقعة، بل وجّه رسائل دقيقة إلى الطرف الفرنسي، موضحًا أن ما حدث لا يمكن فصله عن المسار السياسي لبعض الشخصيات داخل الحكومة الفرنسية، وفي مقدمتهم وزير الداخلية، الذي اعتُبر –بوضوح– وجهًا من وجوه اليمين المتطرف، وهي إشارة تعكس إدراك الجزائر بأن القضية لا تقتصر على خطإ إداري أو إجراء قضائي، بل تمس بتوجه سياسي أوسع داخل باريس، يجد في تعطيل مسار التعاون مع الجزائر أداة ضمن حساباته الضيقة.