سجن الموظف القنصلي بفرنسا.. مؤشر آخر على صبّ البنزين على النار
فِي سياقٍ سياسيّ متوتر يتسم بتعقيد العلاقات الجزائرية- الفرنسية، بسبب أطراف فرنسية متطرفة ومعادية، لم تَعُد الأزمات المتتالية بين البلدين مجرّد حوادث دبلوماسية عرَضية، بل أصبحت مؤشرًا واضحًا على وجود إرادات خفية داخل دوائر السلطة الفرنسية تسعى لنسف كل مسعى نحو تهدئة حقيقية أو إعادة تموقع متكافئ بين الدولتين. فبين خطاب رسمي يدعو إلى التقارب والانفتاح، وممارسات ميدانية تعاكس هذه الدعوات، تتكشّف أكثر فأكثر ملامح حرب عصب داخلية تُخاض في باريس، ما يضع العلاقة الثنائية بين الجانبين في مفترق الطرق.
جاءت عملية توقيف الموظف القنصلي الجزائري في فرنسا ليؤكد هذا التوجه العدائي، حيث لم تكتف السلطات القضائية الفرنسية بتوجيه اتهام عبثي وغير مؤسس في قضية الاختطاف المزعوم، بل تمادت في تعسفها القانوني بوضع الموظف رهن الحبس المؤقت، ضاربة عرض الحائط باتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963، التي تنص في مادتها 43 بوضوح على تمتع أعوان القنصليات بالحصانة القضائية، وعدم خضوعهم لأي إجراء قضائي في البلد المضيف أثناء تأديتهم لمهامهم الرسمية.
بل وتُلزم الاتفاقية الطرف المضيف بإعلام الدولة الأصلية في حال حدوث أي إجراء يمسّ أحد موظفيها القنصليين، وهو ما لم تلتزم به فرنسا، ولجأت إلى توقيف مباشر، في خرق صريح للأعراف الدولية وتجاهل فجّ للحدّ الأدنى من الممارسات الدبلوماسية المتعارف عليها.
في نفس السياق، حاول الخطاب الرسمي الفرنسي التهرب من المسؤولية، بادّعاء أن ما جرى هو من صميم عمل «القضاء المستقل»(...) ولا علاقة للحكومة به، غير أن هذا الطرح لا يصمد أمام التناقض الصارخ الذي وقعت فيه فرنسا نفسها، حين مارست ضغطًا مباشراً وفجًّا في قضية المدعو صنصال، الذي حوكم وفق القانون الجزائري في محاكمة علنية وشفافة، استنادًا إلى أدلة دامغة لا تحتمل التأويل.
ورغم أن المعني يحمل الجنسية الجزائرية ويخضع للسيادة القضائية الوطنية، لم تتورع باريس، وفق مراقبين، عن التدخل سياسيًا وإعلاميًا في مسار قضائي سيادي، مطالبة بالإفراج عنه، بل مستعملة هذه الورقة كأداة للابتزاز السياسي والإعلامي، ما يُبرز ازدواجية فجة في التعامل مع مبدإ فصل السلطات واحترام السيادة، ويكشف أنّ المسألة لا تتعلق بالقانون، بل بوجود حسابات أيديولوجية ومصالح تُحركها لوبيات معادية لكل تقارب جزائري فرنسي.
علاوة على ذلك، فإن إصرار هذه الأطراف على افتعال الأزمات لا ينفصل عن السياق الانتخابي الفرنسي القادم، حيث تسعى قوى اليمين المتطرف، ومعها بقايا المنظومة الاستعمارية في الإدارة الفرنسية، إلى استعادة نفوذها عبر «شيطنة» الجزائر وتشويه مسار العلاقات الثنائية، وهو ما يُقوّض عمليًا الخطاب الذي يتبناه الرئيس ماكرون منذ سنوات، والذي لطالما أكد على أهمية الجزائر كشريك محوري في البحر الأبيض المتوسط وفي محيطه الإقليمي والأمني، إلا أنّ غيابه المتكرر عن التدخل الحاسم في مثل هذه الملفات يطرح تساؤلات عميقة حول موقعه الفعلي في منظومة القرار، وقدرته على كبح جماح هذه التيارات التي أصبحت تُشكّل خطرًا على مصالح فرنسا ذاتها، ناهيك عن تهديد استقرار التوازنات الإقليمية.
في سياق متصل، لم تُخفِ الجزائر امتعاضها من هذا التصعيد، وعبّرت بوضوح عن رفضها لهذه الاستفزازات، مؤكدة أن لديها من الأوراق ما يُمكّنها من الرد الحاسم والمناسب. فمبدأ المعاملة بالمثل، الذي تُقرّه الأعراف الدبلوماسية، قد يُفعَّل في أي لحظة، ويشمل إجراءات من قبيل طرد موظفين في السفارة الفرنسية بالجزائر، أو مراجعة مجمل مسارات التعاون الثنائي، خاصة وأنّ سلوك فرنسا الأخير يُدلل على غياب إرادة حقيقية لاحترام ما وقّعته من اتفاقات.
كذلك، فإن الجزائر، التي استطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تعيد تموقعها الإقليمي والدولي، وباتت تمتلك من القوة القانونية والسياسية ما يخولها التصدي لكل محاولات الابتزاز، لاسيما تلك التي تقودها أجهزة أمنية فرنسية لا تخفي عداءها التاريخي للجزائر، وتواصل التحرّك بمنطق الهيمنة لا الشراكة.
وإذا كانت باريس الرسمية قد اختارت هذا المنعرج الخطير، فذلك لا يعفي الجزائر من مواصلة تمسكها بثوابتها، ولكن مع حذر أكبر واستعداد للرد. إذ لم تعد هذه الأزمة مجرد حادث عابر، بل باتت تجسيدًا لصراع أعمق بين رؤيتين: الأولى تتبناها الجزائر، وترتكز على السيادة والمساواة والاحترام المتبادل؛ والثانية تُروج لها أطراف في فرنسا، لاتزال أسيرة ماضٍ استعماري يُصرّ على ملاحقة الحاضر والتأثير في توجهاته. وبين هذا وذاك، تتجه الجزائر نحو ترتيب أدواتها في التعامل مع فرنسا، على أساس الوقائع لا النوايا، وعلى ضوء الأفعال لا الأقوال.