شيءٌ ما، مثلَ أشياء كثيرة، تفهمها فيما بعد، بأثرٍ رجعي، يبقى كامناً في خزّان الروح، تتحسّسه وتتلمّسه بأنامل القلب طول الوقت، تستهدي به وتستضيء، تنام وتستفيق.
بقلم : علي شكشك
هو مودعٌ فيك، وبدون دليل يكون هو الدليل، لَكأنَّ هناك منطقاً آخر يحدو الطريق غيرَ شواهدِ الحسِّ الثقيلة، كأنَّ الإنسانَ ..”بل الإنسانُ على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره”، شيءٌ ما أشبهه، يُشبهني، يسكن هنا ويسكنني، أعرفه ويعرفني، لا يخطئه القلبُ من بعيد ولا من قريب، يشدّني باختياري واتبعه بهواي كأنّه يعيدني إليّ، ويعود إليّ، في مماهاة وبداهة، لا تخدشها المكابرة ولا يحرفها الهواء، وفي ومضة البرق يكشف لك البرقُ في برقه عن برقه ويشرح الآيات.
الآيات التي رتّلتها في نبض طفولتك الأولى وبرقها البريء، ووجع القلب البعيد، حين كان بياض أجنحة الملائكة في خيال الطفل الذي كنته آنذاك لا يعني إلا الجزائر، وما كانت إلا نفس الأقدار هي التي قادتك إلى هنا، كأنّها دورةُ نفس الأقدار التي قادت أهلك الذين هنا، قادتهم هناك ذات احتلال، حيث كان أجدادُك هناك يستقبلونهم، كما الآن هم يستقبلونك هنا، في توكيدٍ لفظي لا ينتهي لهذا الشبه الجميل والسحر الغامض الوميض الذي يستحيل ذاته فيضيء لكما نفس الدرب الطويل.
هنا مستوطنون، جاؤوا من شقوق الأرض يصادرون السماء وعيون الماء، والأسماء، مستوطنون متنفّذون سيتكررون لاحقاً في التاريخ في بقعةٍ أخرى من الوطن يهتدون بهم ويستنسخون الوباء، ويتمادَون في إهانة الحقِّ والإنسان، وهم وإن أنكروا وجودَ شعبٍ هناك وحاولوا نفيَه من سجلّ التاريخ وغسلوا الجغرافيا من جديد وأعادوا رسم الخريطة، فإنّهم هنا حاولوا نفيَه من الوعي وأعطوه خيمة خلف الحديقة، وهويةً في العدم، ومكاناً في منفى الوعي، ومكانةً على الجانب الآخر من الإنسان والنسيان، اسمٌ يذكرنا بهم الآن وهم يهلكون الحرثَ والنسل، كأنّ المشهد شريطُ سينما يُعاد إخراجُه وعرضُه مرةً أخرى في دارِ سينما في مكانٍ وزمانٍ آخَرَين، فيلمٌ بالألوان، كانَ مسرحُه قصبة الجزائر، أصبح مسرحُه قصبةَ نابلس وسورَ عكّا وحاراتِ القدس، أبطاله المستوطنون، وضحاياه الحرّية والحقُّ ومعذَّبو الأرض، وإذا كانت النظرية الاستعمارية تفترضُ بداهةً دونيةَ المستعمَر، ولاجدارتَه بمرتبة “الإنسان”، فإنّ المقاومة تكون الردَّ الفطريَّ الذي يليق في هذا المقام، ليعيدَ للإنسان كلَّ الإنسان، بل وليُثبت ببداهةٍ أيضاً أنَّ المستعمِرَ هو الذي يفتقرُ إلى اكتمال تكوينه الإنسانيّ.
ولا يهمُّ حينئذٍ الثمن، لأنّ الشهادة فيها ترتقي به إلى أعلى هذه المعاني، وتحقّقها بنصّها الكامل، المنزّه حتى في “ضمير المستعمِر” عن أيِّ نقصان، ولذا لم تتوقّف الثورة في الجزائر، ولم ينمْ جزائريٌّ واحدٌ منذ ذلك التاريخ إلا وهو يطوي على نفسه شوقَه لاستعادة ذاته وكيميائه واكتماله، وهو الذي كانت نفسُه تفيضُ به ويتصدّقُ بدفقه على باقي الأجناس الباحثة عن مأوى من ضيق مساحات التسامح ومحاكم التفتيش وانتقاص حرية الإنسان.
كيف إذاً يكون والقهرُ بحجم الروح وتنوءُ بها الهقار وأطلس وباقي الجبال، وهو السمح الكريم مثل سهولها والعنيد الشامخ شموخ جبالها والممتدّ الواسع كعُقبة والبحار، قهرٌ بطول الليل والنهار.
هنا مستوطنون ويهود، وهناك مستوطنون يهود، بلاءٌ على بلاء، هنا مستوطنون يدوسون بنعالهم الكرامة والحرية ويصادرون الوطن والهوية، ويجهّزون الأبحاث الأكاديمية التي تناقش اعتبار الجزائريّ أقلَّ من الآدميّ.
وعلى وقع سيمفونية القهر والسلب والابتزاز كانت تُصاغ النوتة الموسيقية الجديدة، ويُضطرُّ الجزائري إلى التنازل عن ممتلكاته الثمينة وحتى عن أثاث بيته مقابل عدم الوشاية به لسلطات الاحتلال، وإلا كان مصيره النفي والقتل والتشريد، ممّا دفع عدداً كبيراً من أشراف وأثرياء الجزائر إلى الهجرة إلى خارج البلاد خصوصاً بلاد الشام، ذلك أنّه كان من الصعب أن يهضم الناس سقوط الجزائر بأيدي المحتلين، المحتلين الذين جعلوا البلادَ منفىً لأهلها، وإذا كانت “حريتي هي وطني” كما يقول جلال الدين الرومي فإنَّ الروح ضاقت بروحها واشتاقت لحريتها واشتعلت حدَّ الاحتقان وما كانت سلسلة الثورات العديدة في مختلف أنحاء البلاد إلا تمظهراً حادّاً لحالةٍ سائدة دائمةٍ من الغضب والثورة والاحتقان.
وهكذا كانت الأحوال من ثورة أحمد باي إلى الأمير عبد القادر وثورة الزعاطشة وثورة أولاد سيدي الشيخ وثورة لالّة فاطمة نسومر وثورة الشيخ المقراني والشيخ الحدّاد وثورة الشمال القسنطيني وثورة بوعمامة، ثورات لا تهدأ، تنكسر ولا تنهزم، لأنّ الأولى تتعلّق بالخارج المحيط وإمكانات السلاح، أمّا الثانية فهي مساحات الروح التي لا تطالها الأساطيل وتمتحُ من معين فضائها وأشواق الخلق والكون المفتوح على معناه، معناه المقصور فقط على كنه الحرية، والتي تهون فيها الشهادة والشهداء حتى ولو كان القربان خمسةً وأربعون ألفَ شهيدٍ في مجزرةٍ واحدة، وحتى ولو قذفوا بأرواحهم في نهر السين، ولم تنسَ هذه السياقات وهي في غمرة الدم والشهادة والشهداء أنّ مسألة الحرية واحدة.
كما أنَّ الذين يستهدفوننا هنا يستهدفوننا أيضاً هناك، فما إنْ بدأت المؤامرةُ في فلسطين حتى كانوا أولَ مَن انتبه لأبعادها ومخاطرها ومعانيها، وأسندوها بالنفس والنفيس، وكان الشوق إلى قبلة الإسراء لا يقلّ عن الشوق إلى قبلة الحرية، ولم تمض بضعةُ سنوات حتى اكتملت الرؤية واتضح الطريق، وما كان أولئك “الفتية الذين آمنوا بربّهم وزدناهم هدى”، والذين أعلنوا في ليلةٍ كالحة السواد، أعلنوا بيان أول نوفمبر، مبدّدين السواد الطويل لحقبة القهر والاحتلال، وكانت فتيلة البيان توقَدُ من شجرةٍ مباركة، شجرةٍ تترعرع في أغوار نفوس كلِّ الجزائريين، وتقدحُ من أرواحهم، فتعلّقت قلوبهم بنور مشكاتها، والتحمت نفوسُهم بدفءِ حرارتها حدَّ الاحتراق، وقد اختزنوها طويلاً في قلوبهم وانتظروها، ولم يكن أولئك الرجال الذين أضاؤوها...ولم يكن ذلك البيان إلّا ترجماناً لما في أرواحهم من أشواق.