إحداث دائرة وزارية للفلاحة الصحراوية اشارة لمدى الرهان والتحدي على هذا الصعيد، علما أن تبون سبق ان تحدث بلسان المترشح لرئاسيات 12 ديسمبر انه «سوف يجعل الصحراء منصة اقتصادية بامتياز تنتج الخيرات وتندمج في الصناعة التحويلية للتصدير الى أسواق خارجية»، مما يشير الى مدى المهمة الملقاة على عاتق الوزير المكلف لترجمة تلك الوعود الى مؤشرات اقتصادية ملموسة.
تكون بداية السنة الجديدة 2020 موعدا لانطلاق مسار التغيير الحقيقي على مستوى البنية الاقتصادية باتجاه إعادة الامساك مجددا بخيط النمو الرفيع أملا في الشروع في انتاج الثروة من خلال إعادة تنشيط النسيج المؤسساتي، بعد تطهير السوق من أدوات الفساد المختلفة التي كلفت البلاد فاتورة باهظة طيلة سنوات ساد فيها وهم، تبين أنه كان قناعا استعملته العصابة لتحقيق مصالحها الدنيئة على حساب المجموعة الوطنية.
يتزامن العام الجديد بعد توديع سابقه بإنهاء أزمة الشرعية، التي ألقت بظلالها طيلة عشرة أشهر، مع تعيين الرئيس تبون تشكيلة حكومة الوزير الأول جراد، في اشارة الى ان العزم معقود على مباشرة تجسيد مسار التغيير من مواقع الازمة ذاتها وهي في الظرف الراهن اقتصادية بامتياز ومنها نتائجها الاجتماعية، بالموازاة مع خط التغيير السياسي المرتقب على مستوى الورشات القادمة لمراجعة شاملة للدستور واصلاح عميق لقانون الانتخابات انسجاما مع خطة الطريق التي تعهد من خلالها عبد المجيد تبون بانجاز 54 التزاما المؤسسة لجزائر جديدة.
في الوقت الذي كان يتوقع فيه انتهاج طاقم حكومي ضيق الى أبعد ما يمكن تم تفضيل الذهاب الى صيغة تشكيلة حكومية واسعة تضم عناصر قادمة من خارج الدوائر التقليدية للسلطة بما في ذلك كفاءات من الشباب يعوّل عليها في تجسيد التطلّعات المرتقبة من خلال الابداع والسرعة والصدق في العمل خدمة للمصلحة الوطنية.
من هذا المنظور من الضروري أن يقود فريق الجهاز التنفيذي المشكل من 39 وزيرا ووزيرا منتدبا وكاتب دولة يحملون حقائب أغلب محتوياتها ملفات معقدة وشائكة الى انجاز الأهداف الكبرى المسطرة في ظرف زمني قياسي لا مجال فيه لممارسات العهد السابق المتسم قبل أن تسقط أقنعة الزيف بفساد استشرى داخل المنظومة الاقتصادية والادارية من بوابة الفساد السياسي والتشريعي الى درجة أوصلت البلاد الى حافة انهيار مؤكدة لولا أن القوى الحية يتقدمها الجيش الوطني الشعبي التحمت مع موجة الاحتجاجات الشعبية التي جسدها الحراك السلمي في 22 فيفري الماضي وأثمر بفضل المرافقة الايجابية مكاسب ثمينة بارزة اليوم في المشهد الراهن.
التعثر غير مقبول
التركيبة جاءت، على ما تثيره من جدل طبيعي في مرحلة تحول حاسمة، متوازنة الى جد ما بين وضع حقائب ثقيلة لا تقبل التعثر بين أيدي كفاءات لها خبرة ومنح أخرى لوجوه جديدة لها الطاقة المطلوبة للبذل والعطاء، جهدا وممارسة واتقانا بتفان واخلاص، لتقديم الاضافة المفقودة في سلسلة المنظومة الاقتصادية، وذلك عبر انتهاج تسيير مناجيريالي مطابق لمعايير الحداثة على مستوى الدوائر القطاعية ضمن معادلة متكاملة ومنسجمة تترجم الأوراق الرابحة على قلّتها في شكل ثروات بديلة تعزّز التوازنات الكلية وتضّخ نفسا جديدا في الحلقات الجزئية عبر المؤسسات والمرافق التي تحمل عجلة النمو.
ابقاء حقيبتي الطاقة والفلاحة لدى وزيرين سابقين وهما من كفاءات القطاعين، وعودة آخر لتولي حقيبة الصيد البحري وكذا رجوع وزير سابق للمالية، اشارة الى ان الذهاب الى التغيير والانفتاح أمر ممنهج ومدروس كون هذه القطاعات تمثل عماد الاقتصاد وركائز الامن المالي من ايرادات وتسيير، يقابله منح المسؤولية على هذا المستوى الرفيع في هرم الدولة، كما ورد في اعلان الحكومة، لكفاءات من جامعيين وشباب من أجل تجسيد الفعالية اللازمة لانجاز الانتقال من مربع الريع النفطي الى مربع انتاج الثروة من بوابة الابتكار واقتصاد المعرفة وتوسيع نطاق المشاركة في الاستثمار المنتج.
الصحراء خزان غير بترولي
أمر جديد يثير التوقف عند أبعاده يتمثل في احداث دائرة وزارية للفلاحة الصحراوية في إشارة لمدى الرهان والتحدي على هذا الصعيد، علما ان تبون سبق ان تحدث بلسان المترشح خلال الحملة الانتخابية لرئاسيات 12 ديسمبر الماضي انه «سوف يجعل الصحراء منصة اقتصادية بامتياز تنتج الخيرات وتندمج في الصناعة التحويلية للتصدير الى أسواق خارجية»، مما يشير الى مدى المهمة الملقاة على عاتق الوزير المكلف لترجمة تلك الوعود الى مؤشرات اقتصادية ملموسة في شكل مشاريع استثمارية بمختلف الصيغ التشاركية مع الحرص على حماية الجوانب المتعلقة بالحفاظ على سلامة البيئة من ادراج للطاقة المتجددة وترشيد استعمال المياه الجوفية وصيانة باطن الأرض.
التوّجه الى الفضاء الجغرافي للصحراء والواحات خيار استراتيجي واضح أكبر بكثير من كونه إحداث لمنصب وزاري، كما يبدو للوهلة الأولى، ذلك ان معادلة بناء اقتصاد انتاجي ومتنوع غير مرتبط عضويا بالمحروقات يمرّ حتما من بوابة الفلاحة والصناعة التحويلية بالحجم الصناعي الكبير الذي يستوعب الاحتياجات ويترجم المبادرات، خاصة وان المؤشرات بتأكيد أكثر من خبير تضع مستقبل النمو في كفة الجنوب، ليس كأرضية طبيعية ومناخ مميز فقط وإنما أيضا للموارد البشرية المحلية الموجودة وبامكانها ان تساهم في التنمية سواء كيد عاملة غير مكلفة مقارنة بكلفة استقدامها من الشمال أو إتقانها للمهن المرتبطة بالمكان وخصائصه المناخية والبيئية.
كسر مراكز النفوذ أولوية
حقائب أخرى يمكنها ان تلعب الأدوار الاقتصادية المنوطة بها وجدير التوقف عندها في المستقبل القريب بعد ان تنطلق الورشات وتفتح الملفات ويتم النزول الى الواقع حيث يجب ان تتخذ القرارات وتعالج المشاكل من خلال اتباع أسلوب الحوار الشامل مع الشركاء والانفتاح على الكفاءات الكامنة في كل قطاع حيث تقتضي فلسفة إقامة جزائر جديدة الحرص منذ البداية على كسر مراكز النفوذ واللوبيات البيروقراطية المتحالفة لعقود مع جماعات المصالح والقوى الحزبية والسياسية الضيقة من أجل فتح المجال أمام تكافؤ الفرص وبروز الكفاءات المهمشة والمضروب عليها بجدار الاحتكار والولاءات لغير الوطن.
لقد بلغت كلفة تلك الممارسات الكثير للدولة ويمكن تعويضها اليوم إذا ما التزم اصحاب الحقائب الوزارية بإحداث التغيير على مستوى البطانة المباشرة ثم باتجاه القطاعات في المستويين الأفقي والعمودي بمراعاة المعايير الاحترافية وقواعد النزاهة والاخلاص وإزاحة كل تلك التي سادت في فترات سابقة إنجرت عنها تداعيات أثرت على موارد البلاد وامكانياتها البشرية والمالية.
في هذا الاطار، ما يمكن التطلع إليه سواء في القطاعات الاقتصادية المباشرة أو تلك المرتبطة به بمختلف الجسور الوظيفية كمرافق محورية وإدارات تابعة أو مرافقة، تحرير المبادرات حتى تتضح الرؤية بحيث كلما تسللت الشفافية الى دواليب المنظومة كلما تحققت مكاسب وتراجعت مساحة الفساد الذي يأخذ أكثر من شكل وصورة بعضها يرتكز على تشريعات وتنظيمات يستوجب إنهاؤها بسرعة لتكون الانطلاقة سليمة وثابتة الاتجاه.
البوصلة .. خدمة الجزائر
إذا كانت البوصلة تشير الى إعادة تنشيط العجلة في كافة القطاعات الانتاجية المادية المعروفة وغير المادية كالسياحة الغنية بالثروات والفقيرة بالنمو، فإن المؤسسات التابعة للجهاز الاقتصادي تحتاج اليوم الى مساحة واسعة للمبادرة والتحرك ضمن الضوابط القانونية الحافظة للمال العام من أجل بلوغ التنافسية وارساء استثمارات حقيقية وذات جدوى مفتوحة على المنافسة ولا مجال فيها لتلك الممارسات المترسبة في الماضي، حينما كبل الفساد النمو وعطل التنمية، وهي مأمورية أول من يتحملها الوزراء أنفسهم، كونهم مسؤولين مباشرة أمام رئيس الجمهورية الذي يبقي نظره على مرآة الشعب الجزائري المراقب والمتتبع للتطورات.
المعركة بدأت مواجهتها، بل الظرف يتطلب الإسراع في اتخاذ الترتيبات من حيث اقتراح التنظيمات المرنة والجديدة المواكبة للتحولات العالمية حتى يتموقع الاقتصاد في المركز الذي يرجع إليه كمصدر لإنتاج الثروة الحقيقية واقتصاد النفقات دون المساس بالمكاسب الاجتماعية والحوار المتواصل مع الفاعلين والشركاء، بحيث الأمل تحمله دوما إرادة لاتغيير البناء والمبدع بعيدا عن احتكار القرار أو تسلط في رسم الخيارات، وإنما القوة والنجاح مصدرهما الوحيد في العمل بتفان وانفتاح بعيدا عن أي ايديولوجية أو توجه سياسي والوجهة الوحيدة فقط هي خدمة الجزائر وفقط.