مدريد ترفض الرضوخ لجولة ابتزاز جديدة

المخزن يساومُ إسبانيـا على المجـال الجـوّي الصحـراوي

فضيلة دفوس

قبــول المغـرب بجمارك سبتة ومليليـة اعـتراف بإسبانيـة المدينتـين

يحصر المغرب في الوقت الراهن كل اهتماماته وانشغالاته في موضوع واحد وهو كيفية ترسيخ احتلاله للصحراء الغربية والتشويش على استقرار المنطقة ودفعها نحو الفوضى والتوتر بنهج مختلف الأساليب والمؤامرات. ودون هذه الانشغالات، لا يبالي نظام المخزن لا بالمشاكل التي يتخبّط فيها شعبه من تردّي معيشي وانتهاكات حقوقية، ولا حتى بالإبادة التي تفتك بالفلسطينيين حيث يمعن في دفن رأسه بالرمال كي لا يثير غضب الكيان الصهيوني، وللخداع والتمويه فهو يوعز بخروج بعض المظاهرات والاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ويسهر على نشر أخبارها وتداولها عبر مختلف المواقع الإخبارية، معتقدا بأن العالم سيصدق خدعته وتنطلي عليه حيلته، لكن غاب عنه بأن شمس الحقيقة لا تغطيها عيون غربال.

لقد برز النظام المغربي في السنوات الأخيرة كأكثر الأنظمة اعتمادا على الأساليب الملتوية من رشاوي وابتزاز وتجسّس، للمساومة والضغط من أجل انتزاع اعترافات من هذه الدولة وتلك بمخططه الاستعماري في الصحراء الغربية، فشهدنا في 2023 الفضيحة المدوية التي هزت المؤسسة الأوروبية وكانت المخابرات المخزنية في قلبها، حيث أكد تحقيق أجراه مكتب المدعي الفيدرالي البلجيكي أن نوابا أوروبيين تلقوا أموالا من المغرب نظير خدمته عبر تبييض وشرعنة احتلاله للصحراء الغربية وحرمان الصحراويين من المساندة والدعم لقضيتهم العادلة في البرلمان الأوروبي، كما اعترف بعض النواب الذين تمّ توقيفهم بأنهم كانوا طرفا من منظمة تستعملها المخابرات المخزنية لغرض التدخل والتأثير في الشؤون الأوروبية.
وهذه الفضيحة الكبرى تعد الثانية التي يقع فيها المغرب بعد قضية التجسس بواسطة برنامج “بيغاسوس” الذي صممته شركة “ان اس او” الصهيونية واستعمله نظام المخزن للتجسس على هواتف سياسيين وعسكريين ومعارضين ودبلوماسيين وحتى صحافيين في 2019.
وقد كان كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة الاسبانية بيدرو سانشيز عرضة للتجسس المغربي وهو ما قد يفسر قبولهما خرق لوائح الشرعية بخصوص القضية الصحراوية وتغيير مواقف بلديهما بصفة مفاجئة لصالح الطرح الاستعماري المغربي، إذ يتجلى بوضوح أن الرئيسين وقعا تحت ضغط المخزن واستسلما لابتزازاته ومساوماته.
ولأن المخزن يعتقد خطأ بأن طريقة المساومة والابتزاز والضغط أتت أكلها حتى الآن وأكسبته جولة في معركة ترسيغ سلطته الاستعمارية على الصحراء الغربية، ها هو ماض إلى تكرارها مع رئيس الحكومة الاسبانية بهدف محدّد هذه المرّة وهو إرغام اسبانيا على التنازل عن إدارة المجال الجوّي الصحراوي لصالح المغرب، حتى يفرض سلطته على أجواء الإقليم المحتل كما يفرض قبضته على أراضيه.

ابتزاز جديد
يضغط النظام المغربي هذه الأيام على إسبانيا بورقة المجال الجوي الصحراوي، حيث يربط موافقته على إطلاق الجمارك التجارية بكل من سبتة ومليلية الاسبانيتين بموافقة مدريد على تسليمه الإشراف على المجال الجوي للصحراء الغربية، وهو الشرط الذي تتردّد إسبانيا في قبوله كونها من يدير هذا المجال منذ عقود طويلة وحتى بعد انتهاء استعمارها للإقليم الصحراوي ومغادرتها المنطقة في سبعينات القرن الماضي استمرت في إدارته ضمن اتفاق دولي، حيث منحتها المنظمة الدولية للطيران المدني حق تسيير المجال الجوي للصحراء الغربية في انتظار الحل النهائي. لهذا فتسليم إدارة هذا المجال للاحتلال المغربي يعتبر خرقا واضحا للقانون الدولي وللوضع الخاص للصحراء الغربية باعتبارها إقليما محتلا، ولا يخضع للسيادة المغربية.
هكذا إذن، وبعد قرابة ثلاث سنوات من المباحثات المكثفة، التي وضعت كل الترتيبات وهيّأت كلّ الظروف لافتتاح جمارك سبتة ومليلية، فاجأ المغرب الجميع في آخر المطاف بإيقاف دخول الشاحنات الإسبانية المقرر دخولها دون أن يبرّر للطرف الآخر سلوكه، مما أثار استغراب مدريد ودفعها للبحث عن الأسباب.
وفي بحثها عن الأسباب، أدركت مدريد بأن المخزن يصرّ على وضعها أمام الأمر الواقع عبر ابتزازها ومساومتها، رافعا شعار “إعادة تشغيل الجمارك بسبتة ومليلية مقابل المجال الجوي الصحراوي”، وبصيغة أخرى “سبتة ومليلية مقابل المجال الجوي للصحراء الغربية”، على اعتبار أن موافقة المغرب على إطلاق الجمارك التجارية بكل من سبتة ومليلية، يعكس موافقته على أنهما يتبعان إسبانيا، ما يعني أن المغرب يسعى لصفقة يقرّ بموجبها رسميا بإسبانية سبتة ومليلية، وتتنازل له إسبانيا عن سماء الصحراء الغربية.

مدريد تقاوم ضغوط المخزن
وحتى الآن تتمسّك إسبانيا بإدارتها للمجال الجوي الصحراوي، حيث نفى وزير الشؤون الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس شهر ديسمبر الماضي في جلسة برلمانية أنه سيتم التنازل عن تسيير المجال الجوي للصحراء الغربية للمغرب. وفي الوقت ذاته، قامت وزارته بتوجيه مراسلة إلى وزارة الدفاع تتضمن الموقف الإسباني حول القضية الصحراوية وهو دعم مساعي الأمم المتحدة مع تجنب ذكر الخيار المغربي الاستعماري المسمى “الحكم الذاتي.”
وفي رده على سؤال لنائب برلماني من حزب بيلدو حول الأخبار التي تروج بأن اسبانيا تتفاوض مع المغرب بشأن التنازل عن تسيير المجال الجوي للصحراء الغربية للمغرب، نفى الوزير نفيا قاطعا هذه الأخبار. وجاءت معالجة هذا الموضوع على إثر قرار شركة “راينر” فتح خط جوي من إسبانيا نحو مدينة الداخلة المحتلة الواقعة أقصى جنوب الصحراء الغربية. حيث شدّد النائب بيلدو أنه يخرق حكم محكمة العدل الأوروبية الذي ينص على ضرورة استشارة الصحراويين في أي اتفاق، وردّ الوزير بأن شركة “راينر” مخولة بتقديم تفسيرات.
وفي جانب مرتبط بهذا الملف، أرسلت وزارة الخارجية الإسبانية توجيهات سياسية إلى وزارة الدفاع بشأن الموقف المعتمد في ملف الصحراء الغربية، وكانت شعبة التخطيط في الجيش طلبت تعليمات لتوزيع الموقف الإسباني من قضية الصحراء الغربية على أفراد الجيش. ويلتزم الجيش في الملفات الدولية بما تمليه عليه وزارة الخارجية.
وجاء في مراسلة وزارة الخارجية للجيش “إن موقف إسبانيا بشأن الصحراء الغربية معروف تماما ويتفق مع إطار الأمم المتحدة والقانون الدولي. وكما ذكر رئيس الوزراء في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 سبتمبر 2024، فإن إسبانيا تؤيد التوصل إلى حل سياسي مقبول من الطرفين، في إطار ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن”. كما جاء في المراسلة أن “عمل بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (المينورسو) والمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ضروري في هذا الصدد، ويحظى بالدعم الكامل من الحكومة الإسبانية”.
ويلاحظ كيف تجنبت المراسلة الإشارة الى الطرح الاستعماري المغربي المسمى “الحكم الذاتي”، والاكتفاء بدعم مساعي الأمم المتحدة، وهو ما يشير إلى أن سانشيز تعرّض للابتزاز والمساومة نظير تغيير موقفه بشأن الصحراء الغربية، وبأن موقفه الجديد هذا لا يحظى بأي اجماع داخل إسبانيا التي تواجه ضغوطا وتهديدات لا حصر لها من المغرب خاصة في مجال الهجرة.
ونتذكّر جيدا كيف دفع المخزن بأمواج الشباب المغلوب على أمره، وأغلبهم قصّر، في اتّجاه الجارة الشمالية في ماي 2021، حيث وصل أكثر من 8000 مهاجر إلى جيبي سبتة ومليلية الإسبانيين سباحة أو سيرا أو على متن قوارب مطاطية صغيرة.
وقد وصفت وزيرة الدفاع الإسبانية مارغريتا روبليس آنذاك الحادث بأنه اعتداء على الحدود الإسبانية وحدود الاتحاد الأوروبي، وقالت “هذا أمر غير مقبول بموجب القانون الدولي”، مضيفة أن الرباط تستغل القصّر.
وتابعت روبليس “سمّوا هذا الوضع ما تريدون لكنني أسميه ابتزازا”.  وقد تجلى واضحا لإسبانيا حينها وللعالم أجمع بأن ما فعله المخزن لم يكن فقط للاحتجاج على استقبال مدريد للرئيس الصحراوي بقصد العلاج، بل وكما قالته العديد من الأوساط “ من الواضح أن المغرب يغض الطرف عن المد البشري الذي يدخل سبتة من أجل ممارسة ضغوط دبلوماسية على إسبانيا للاعتراف بسيادته المزعومة على الصحراء الغربية”.
 لقد كان كل شيء جاهزًا الأسبوع الماضي لبدء تشغيل جمارك سبتة ومليلية بعد ثلاث سنوات تقريبًا من المفاوضات المكثفة. ومع ذلك، في أول يوم لتفعيل الجمارك، قرر المغرب إيقاف دخول الشاحنتين الإسبانيتين اليوميتين المخصصتين لكل مدينة، وهو ما تم الاتفاق عليه مع حكومة بيدرو سانشيز.
 وكعادته لم يبرّر المغرب سلوكه، فهو لا يعبّر عن مواقفه بشكل مباشر، بل تعتمد على أفعال ملموسة تترك تفسيرها للطرف الآخر، وقد فهم الطرف الآخر الرسالة وأدرك بأنه وقع مجدّدا تحت ضرس المخزن وعليه أن يقدّم تنازلات إذا كان يريد تشغيل جمارك سبتة ومليلية.
ومعلوم أن قبول المغرب بجمارك سبتة ومليلية يعني قبوله الرسمي بإسبانية المدينتين، وهو في الواقع لا يعارض ذلك لكنه يريد استخدام هذه الورقة لمساومة اسبانيا والضغط عليها لتسلّمه المجال الجوي للصحراء الغربية وكأنّه هو الآمر الناهي في هذا الكون، بل وكأن العالم لا تحكمه قوانين وقرارات وشرعية تقرّ بكلّ وضوح أن الصحراء الغربية إقليم محتل ومعني بتقرير المصير والاستقلال، وبأن أجواء الصحراء الغربية تماما مثل أراضيها هي ملك للشعب الصحراوي، وبأن الاحتلال المغربي إلى زوال قريب.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19737

العدد 19737

السبت 29 مارس 2025
العدد 19736

العدد 19736

الجمعة 28 مارس 2025
العدد 19735

العدد 19735

الأربعاء 26 مارس 2025
العدد 19734

العدد 19734

الثلاثاء 25 مارس 2025