في كتابه “كتابة سيناريو فيلم – سيناريو أوسكار”، يقدّم الكاتب الكندي روبير غوريك دليلًا دقيقًا ومُلهمًا لواحدة من أكثر المهام إبداعًا وتعقيدًا في صناعة السينما: كتابة السيناريو. لكنّه لا يكتفي بإعطاء قواعد عامة، بل يتوغّل في صلب الحرفة، حيث تلتقي الرؤية بالعناصر التقنية، وتتحوّل اللغة إلى أداة لبناء الصورة. فالسيناريو ليس مجرد مخطط لفيلم، بل هو الطريقة التي تُترجم بها الرؤية الإبداعية إلى شيء يمكن تصويره، مشاهدته، ومشاركته مع الجمهور.
ينطلق غوريك من مبدأ أساسي: لا يكفي أن تكون لديك فكرة جيدة لتكتب سيناريو ناجحًا، بل الأهم أن يكون لديك موقف واضح من الحياة، زاوية نظر تجاه العالم، رغبة داخلية في قول شيء ما لا يمكن سرده إلا عبر الصورة. إن السيناريو الحقيقي لا يُبنى حول حبكة فحسب، بل ينبثق من سؤال جوهري يطرحه الكاتب على نفسه: لماذا أكتب هذا الفيلم الآن؟ هذا السؤال يمنح النص بعدًا ضروريًا، ويُجنبه الوقوع في الحشو أو الانفعال العابر.
وهنا لا ينصح المؤلف بالبدء مباشرة في كتابة المشاهد أو الحوارات، بل بوضع تصور شامل للهيكل الدرامي، وتحديد مسار تطوّر الشخصيات، ونقاط التحول الأساسية، فالسيناريو - في النهاية - هو فعل تصميم قبل أن يكون فعل كتابة.
البناء الثلاثي..هندسة متماسكة
يُعدّ البناء الثلاثي من الأسس الكلاسيكية التي يؤكد عليها الكتاب، ويُدافع عنها ليس كقالب جامد، بل كأداة درامية تُساعد على ضبط توتر القصة وتوزيع أحداثها، ويقترح أن يُقسم السيناريو إلى ثلاث وحدات سردية متتالية: الافتتاحية، وفيها يُقدَّم البطل وعالمه، ويُبنى التوازن الذي لا يلبث أن يُخرق بواسطة حدث مفجّر يُغيّر مجرى الأشياء، ثم مرحلة التصعيد، وهي القسم الأطول، حيث يخوض البطل صراعًا داخليًا وخارجيًا مع العقبات التي تمنعه من الوصول إلى هدفه، فيزداد التوتر وتتكشّف طبقات الشخصية، وتأتي الذروة والنهاية، وهي لحظة الحسم التي تُفضي إلى نتيجة نهائية، قد تكون انتصارًا أو خسارة، أو حتى تحولًا وجوديًا في الوعي والسلوك.
هذا الشكل البنائي يُجبر الكاتب على التحكم في الإيقاع، وعلى توزيع الأحداث بشكل يحافظ على التفاعل والتشويق، ويمنع التكرار أو الترهل. فالمشاهد التي لا تُسهم في التصعيد أو الحل، لا مكان لها في نص سينمائي محكم.
بناء الشخصية..من الرغبة إلى التحوّل
في تصوّر غوريك، لا معنى للحدث ما لم يكن مرتبطًا بشخصية تتفاعل معه. لذلك فإنه يمنح أهمية استثنائية لبناء الشخصيات، معتبرًا أن الشخصية السينمائية ليست “نوعًا” اجتماعيًا أو قالبًا نمطيًا، بل كائنا سرديا يعيش داخل توتر نفسي وأخلاقي دائم.
الشخصية الجيدة هي التي تملك رغبة واضحة، تقاوم من أجلها، وتدفع ثمن خياراتها، وليست تلك التي تُحرّكها الأحداث، بل التي تُحرّك الأحداث من خلال قراراتها، مخاوفها، وقيمها، ويُنبه غوريك إلى أن الشخصية المثالية لا تُقنع المشاهد، لأن ما يُقنعه هو التناقض الداخلي، التحوّل، والانكسار؛ لذلك، فإن فهم الشخصية لا يكتمل إلا عبر التعرّف على دوافعها وصراعاتها، وحدودها النفسية.
المشهد..وحدة دينامية
يرى الكاتب أن المشهد هو اللبنة الأساسية للسيناريو، وأن كل مشهد يجب أن يحمل هدفًا ضمن المسار العام: أن يحرّك الحبكة، يُظهر تحوّلاً، أو يكشف عن عمق في الشخصية، ومن الخطأ التعامل مع المشاهد كمحطات مستقلة، أو ملء فراغات بين الأحداث الكبرى، بل يُفترض من كل مشهد أن يكون فعلاً دراميًا حيًا، يفتح أفقًا جديدًا في السرد، أو يُعقّد ما سبق.
والأهم أن المشهد لا يُبنى بالكلام، بل بالصورة والحركة والإيقاع؛ فالكاميرا، كما يكرر غوريك، لا تُصوّر المشاعر أو النوايا، بل تُصوّر الأفعال؛ لهذا فإن من علامات المشهد السيئ، أنه يمكن حذفه دون أن يتأثر السيناريو، أو أنه يُخبر بما كان يمكن إظهاره.
الحوار..أداة كشف لا وسيلة تفسير
يضع غوريك الحوارات في موقع حساس، محذرًا من الإغراءات البلاغية التي تُحوّل الحوار إلى خطب، فالسيناريو لا يُكتب ليُشرح، بل ليُلمّح، وليُظهر ما يخفى لا ما يُقال، والحوار في السينما ليس مجرد تواصل بين الشخصيات، بل هو جزء من الأداء الدرامي الكلي، يجب أن يعكس الصراع والتوتر والتباين في الرغبات.
أفضل الحوارات – في رأي غوريك - هي تلك التي تنبع من حاجة داخلية، وتُقاوم في الوقت نفسه أن تُقال، فالحوار الجيد لا يُفسّر الموقف، بل يضاعف من غموضه، ويُثير السؤال بدل أن يُجيب عنه. وغالبًا ما يكون ما بين السطور أهم مما في السطور.
السيناريو ليس وثيقة أدبية
يؤكد غوريك أن السيناريو لا يُكتب ليُقرأ، بل ليُستخدم؛ لذلك فإن لغته يجب أن تكون واضحة، دقيقة، مقتصدة، إذ لا مكان في السيناريو للوصف الأدبي الزائد، أو للتأملات التي لا تُترجم إلى صورة.
إن المخرج والممثل والمصور، وحتى المنتج، سيقرأون السيناريو باعتباره خارطة طريق، وليس قطعة نثرية، وكلما كانت هذه الخارطة دقيقة ومحددة ومفتوحة على الخيال البصري، كان التنفيذ أيسر وأكثر أمانة للرؤية الأصلية.
من النظرية إلى التطبيق..
في القسم الأخير من الكتاب، يضع المؤلف بين يدي القارئ سيناريو كاملاً بعنوان “أوسكار”، كتبه بنفسه، ليكون نموذجًا تطبيقيًا لما شرحه في فصول الكاتب، وهذا السيناريو لا يُقَدَّم كتحفة، بل كتمرين يمكن للطلبة والمبتدئين أن يتعلّموا منه كيفية بناء الشخصية وتوزيع التصعيد، واستخدام الصمت بدل الكلام، ثم الكيفية التي تسمح للمشهد بخدمة الهدف، وهذا كله يُمكن أن يُفهم بسهولة من خلال المقارنة بين التحليل النظري والمثال التطبيقي.
السيناريو جسر إلى العالم المرئي
ما يخلص إليه روبير غوريك في هذا الكتاب، هو أن كتابة السيناريو ليست موهبة فردية فقط، بل مهارة قابلة للتعلّم، بشرط أن تُمارس بجدية وصبر وحسّ بنائي، وهي - في الآن ذاته - شكل من أشكال التفكير البصري الذي لا يرى العالم كما هو، بل كما يمكن أن يُرى.
إن السيناريست الجيد ليس من يُتقن الصنعة فقط، بل من يعرف ماذا يريد أن يقول، ويجد الوسيلة البصرية الأنسب لقوله، فالسينما ليست مجرد حكاية تُروى، بل هي فعل تأويل للحياة، والسيناريو هو لحظة هذا التأويل الأولى، اللحظة التي يُخلق فيها العالم من الصمت، ويبدأ في التشكل من العدم.