في هذه الوقفة الأخيرة أرى من الضرورة أن أذكر ببعض المعطيات، بعد أن أسجل أنني غيرت العنوان إلى: وقفة مع الذات، احتراما لرأي أصدقاء رأيتهم أعلم مني بالعربية، وفوق كل ذي علم عليم.
فبعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي وجد الغرب نفسه في حاجة لعدو جديد يكون أداتَه في تأكيد نفوذه العالمي وحشد الشعوب وراءه، وأقصد بالغرب هنا كل المؤسسات المالية والاقتصادية بما فيها شركات النفط وصناعة الأسلحة وأجهزة الإعلام، التي يتحكم في معظمها أبناء صهيون.
وكانت تفجيرات سبتمبر 2001 في نيويورك، والتي لم تعرف كل حقائقها حتى الآن، حلقة في سلسلة مؤامرات صليبية بدأت بثورة لورنس، ومخططات سايكس بيكو ثم تقسيم فلسطين، وبكل التداعيات التي نشأت عن ذلك، ثم تواصلت في الألفية الجديدة بالحرب العراقية الإيرانية التي دعمتها ومولتها أنظمة عربية لم تفهم أن الحرب لم تكن مجرد مخطط خبيث يستهدف القضاء على القوة العسكرية للبلدين المسلمين وإنما، وربما قبل ذلك، إحياء العداوة بين العرب والفرس والتي قضى عليها الإسلام، عندما كان المسلمون يؤمنون بأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
وكانت التفجيرات مبرر تحطيم أكبر دولة عربية تشكل غصة في حلق العدو الصهيوني، وبغض النظر عن اتهامات الدكتاتورية التي وُجهت لنظام الحكم، وكأن الأنظمة التي تحظى بدعم الغرب في المشرق والمغرب هي واحة للديموقراطية.
وهكذا أصبحت قضية الإرهاب تجارة يمارسها الغرب، في حين أن نواة الإرهاب في أفغانستان كانت من إنتاج المخابرات الأمريكية، بتمويل دول عربية مشرقية، هي نفسها التي خلقت الظروف التي ولدت فيها داعش ونمت، لتكون اليوم مبرر العالم كله لحالة العداء ضد الإسلام والمسلمين.
ورغم أن التطرف الديني والتجاوزات السياسية خلقت وضعية من عدم الاستقرار الأمني في بعض المناطق، فإن هناك مبالغات كثيرة في قضية الإرهاب تقف وراءها قوى غربية تحاول أن تزرع نفوذها في المنطقة، وهي تجنّد أنظمة لا تملك شجاعة مواجهة الواقع اليومي في بلادها.
ولابد هنا من الاعتراف بأن حماقات بعض المتأسلم ينتصب في رصيد أعداء الإسلام باستنفارها غضب المواطنين، ولا أعرف نصا يُحرّم الاحتفال بالمولد النبوي أو يمنع الوقوف للسلام الوطني، ولا أفهم أن يُجعل التدين الصحيح نقيضا للانتماء القومي، ويَجعل من الإسلام مظاهر وتصرفات مستفزة تدمر التضامن المطلوب، كذلك الأحمق الذي يصر على أن يتجه في صلاة الجماعة لغير اتجاه الإمام وبقية المصلين.
وبدون أن أغرق في تفاصيل ما يحدث اليوم في الشام نتيجة انخداع أعراب الجامعة العربية بالموقف الأمريكي، الذي يتحمّل بتخاذله المتعمد أو بتآمره الضمني مسؤولية الدخول الروسي إلى المنطقة.
وإذاكان هدف الجميع هو تدمير سوريا باستثمار حماقة النظام كما حدث في ليبيا، فإن ما يجب أن ندركه أيضا هو أن روسيا تنتقم اليوم لهزيمتها في أفغانستان أمام تجمعات إسلامية قد لا نتفق مع كل توجهاتها، لكنها تحسب علينا لأنها تندرج تحت لواء الإسلام.
وهكذا تنسجم موسكو مع واشنطون في دعمها المباشر للقوة الإسرائيلية في المنطقة.
ويأتي لقاء بابا روما الكاثوليكي ببطريرك روسيا الأرثوذوكسي اليوم، وللمرة الأولى في التاريخ المعاصر، ليكون رسالة لم تفهم المرجعيات الإسلامية دلالاتها، وهكذايواصل قادة الشيعة ومن يقدمون أنفسهم كحماة السنّة التقاذف بالتهم والحِمَم، ولا يرون أن خلفية اللقاء شبه المعلنة هي الادعاء بحماية المسيحيين في المشرق العربي، مع تسريبات هنا وهناك تذكر بأهداف عمليات التمسيح النشطة التي يعرفها المغرب العربي، ويساهم في بثها بعض الحمقى من المستلبين وبعض العملاء المأجورين من بقايا خونة الأمس، أما الهدف الحقيقي فهو تنسيق الجهود ضد الإسلام والمسلمين.
والمغرب العربي مستهدف اليوم أكثر من أي وقت مضى، فهو المنطقة الوحيدة في الوطن العربي التي يجمع أغلبيتها مذهب ديني واحد، ويوحدها عمق تاريخي واحد، ويربطها انتماء حضاري واحد، ويعبر عنها رباط ثقافي واحد، وكل هذا يضمن إمكانية إقامة اتحاد قوي للشمال الإفريقي، يحمل نفس اللواء الذي حملته الجزائر خلال ثلاثمائة سنة وهي تحارب المد الصليبي الأسباني، ومن هنا يصبح الشمال الإفريقي في مرمى النيران.
هذا كله يفرض علينا أن نمتلك شجاعة إنهاء حياة الاتحاد المُقعد المشلول، وأن نعبر عن إرادة وضع ميثاق اتحاد جديد للمغرب العربي، نؤكد به إرادتنا في بناء المستقبل المشترك، ونرسم الأهداف الاستراتيجية ونحدّد الخطوات العملية لتحقيق آمال شعوبنا في الحفاظ على الحرية والاستقلال، وفي اعتماد برامج للتنمية الوطنية المتكاملة، ميثاق يبادر بصياغته المثقفون الحقيقيون ولا يترك لخياطي السلطة، وتستفتى عليه الشعوب بعد مناقشته العلنية، وتعتمده القيادات السياسية عبر المؤسسات الدستورية.
ميثاق نواجه فيه، بكل شجاعة وبعيدا عن المزايدات والمناقصات، قضية الهُوية في المغرب العربي، فنسجل اعتزازنا بالعمق التاريخي الأمازيغي، ونؤكد انتماءنا للحضارة العربية الإسلامية، ونبلور ارتباطنا الاستراتيجي بالقارة الإفريقية، ونحدّد موقعنا بالنسبة للبعد المتوسطي، ونرسم أسلوب تعاملنا الجماعي مع الجار الأوروبي.
اتحاد جديد يكون من أهدافه العمل على تلبية إرادة الشعوب في العيش الكريم بكل ما تعنيه الكلمة، ومواجهة المشاكل الاجتماعية بالحلول السياسية السليمة وليس بالمنطق الأمني المتعنت، وهذا هو ما يضمن استتباب الأمن وتحقيق الاستقرار، وهما الشرط الأساسي لنجاح مخططات التنمية الوطنية، وهكذا تكتمل الدائرة، لأنه لا ازدهار بدون استقرار ولا استقرار بدون تلبية الحقوق المشروعة لشعوب المنطقة، وتخفيف حدّة التوترات القائمة بين قيادات المغرب العربي، والمواجهة الشعبية لما يمكن أن تقوم به بعض أنظمة الحكم لتحقيق علاقات متميزة مع الشمال لمجرد النكاية في دولة أخرى، وربما على حسابها في المدى القصير وعلى حساب الجميع في المدى البعيد.
من أين نبدأ؟
وأجيب على الفور قائلا: نبدأ من البداية وهي زرع الإيمان بأن إقامة اتحاد قوي وفاعل للمغرب العربي هو ضرورة حيوية للشمال الإفريقي، سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وأمنيا.
والبناء يجب أن يقام على قاعدة تتكامل فيها العاطفة مع العقل، ويرتكز على ثوابت لا تراجع عنها لأنها راسخة في الفكر والوجدان.
وأرجو ألا أصدم الرفاق وأنا أقول، بما قد يبدو نزولا إلى مستوى الأرض بدلا من التحليق في عنان السماء، أن البداية العملية التي يجب أن نعتمدها هي طريق التعليم، وابتداء من دور حضانة الأطفال، بالعمل على إنشاء المدرسة التي تُعدّ أبناءنا لبناء المجتمع الجديد المتمسك بإقامة المغرب العربي، والتي تتكامل التربية فيها مع التعليم لتنسجم الأخلاق مع العلم، وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.
وتوحيد مناهج التعليم في مدارسنا الابتدائية والثانوية بل ومعاهد التكوين المهني ليس إنجازا يتجاوز طاقة البشر إذا صدقت النوايا وتوفرت الإرادة، فاللغة العربية، بنص الدساتير المُستفتى عليها جماهيريا، هي اللغة الوطنية والرسمية، ونحن، بخلاف دول المشرق العربي، نستعمل الأرقام العربية في حياتنا اليومية، وقواعد الحساب والجبر والهندسة ثابتة، والمعادلات الكيميائية واحدة، والمبتدأ يرفع دائما بينما لا يُنصب الخبر إلا بدخول كان أو أخواتها، ولا تغيير في عدد الأسماء الخمسة، وأوكتاف الموسيقى مكون من سبع نغمات رئيسية تضاف لها خمس نغمات فرعية، والربع تون جزء من نوتتنا الموسيقية.
والعقبة الرئيسة في توحيد مناهج التعليم قد تكون مادتي الجغرافيا والتاريخ، ربما لأن من سوف يكلفون بكتابتها قد يكونون من أبناء الجيل الذي فعلت به الشوفينية أسوأ أفعالها، ولا مانع، مرحليا، من إعطاء الأسبقية للمواد الدراسية الأخرى إلى أن ننضج بما يكفي لكتابة مادة تاريخية موحدة وخرائط جغرافية واحدة.
ويبقى أن أتوقف لحظات عند من يقولون بأن علينا أن نحذف صفة (العربي) ونضع مكانها صفة (الأمازيغي)، ومنهم من يدعي أن سبب فشل اتحاد المغرب العربي هو إقحام الصفة العربية عليه، وهي خلفية خبيثة واضحة تتجاهل أن البناء السياسي لا دخل له بالأعراق والسلالات، فهذه مقصورة على الحيوانات، فنقول دب روسي وقط فارسي وكلب ألماني وحصان بربري ونمر بنغاليوبغل أسترالي الخ.
والعمق التاريخي الأمازيغي للشمال الإفريقي هو أمر ثابت نعتز به، لكن الانتماء العربي الإسلامي هو ضرورة حضارية وواقع ثقافي لا يشكل عقدة نفسية إلا عند المؤهلين لتلك العقد، طبقا لمنطق نظرية القابلية للاستعمار، أو عند المكلفين بمحاربة الإسلام من خلال محاربة العربية، وهما أمران متكاملان في الشمال الإفريقي.
والعربية، بنص حديث سيد المرسلين ليست لأحد منا بأب ولا أم، ولكنها اللسان، أي الفكر والثقافة، أي العلم بمفهومه الشامل.
وأسماء الدول لا تفتعل التسميات ولا مجال فيها لجدل التاغنانت، فالاتحاد الأوروبي لم يسمِّ نفسه الاتحاد اللاتيني، بل انتسب للقارة الأوربية، وهو انتساب جغرافي سياسي، لانعدام اللغة الواحدة التي تحتضن الجميع، ومصر لا تسمي نفسها جمهورية مصر الفرعونية، برغم أن الحضارة الفرعونية هي من أعظم الحضارات العالمية، وفرنسا لا تسمي نفسها فرنسا الغاليّة في حين أن الغاليين هم العمق التاريخي لبلاد الجن والملائكة، وحتى بريطانيا لا تقحم الأنغلوساكسونية في اسمها، بل هي رسميا المملكة المتحدة، وإعلاميا هي بريطانيا الكبرى، وليس العظمى كما ينطقها البعض.
ولعلي أذكر بأن الأمازيغي المجاهد عبد الكريم الخطابي هو صاحب تسمية المغرب العربي عند إنشاء مكتب القاهرة في الأربعينيات.
وأنا لا أدعي بأنني أمتلك الحقيقة بالنسبة للتسمية، لكنني على استعداد لقبول كل ما ترتضيه شعوبنا في استفتاء عام مباشر، بعيدا عن أي مزايدات أو مناقصات، وعن محاولات الابتزاز التي أصبحت تجارة المفلسين.
ولأننا فشلنا في السياسة وفشلنا في الاقتصاد بقي أن ننجح في الثقافة، وهكذا تكون المدرسة هي البداية، وهي الاختبار الحقيقي للنوايا.
»«انتهى»
الحلقة الرابعة والأخيرة