إرساء دولة القانون وتكريس الديمقراطية والحكامة، وكذا احترام الحريات الفردية والجماعية وهي دولة المؤسسات، يجب أن تمر، لا محالة، عن طريق أخلقة الحياة السياسية والعامة وبناء المؤسسات. كما ارتبط تغير مفهوم بناء الدولة بتحول السياقات التي فَرضت بدورها المراجعة السلوكية، وكلها تهدف إلى شرح وتفسير الدور الذي تلعبه المؤسسات أو كل ما يتعلق بمؤسسة منها كبناء أو وظيفة معينة، على استقرارها وتوازنها، واستمرارها ودورها في عملية البناء دول جديدة أو الدول المعاصرة.
على غرار مختلف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في البلاد، للمؤسسات الدستورية انطلاقا من مكانتها، دور مهم تساهم من خلاله في تحقيق تنمية الوطن وازدهاره والمحافظة على أمنه واستقراره.
إن المكانة الهامة التي يحتلها البرلمان في المنظومة السياسية والدستورية للدولة الحديثة، تؤهله بأن يكون جهة معنية بإدارة الدولة باعتباره ممثلا للسلطة التشريعية، ولهذا نجد أن دور البرلمان في الأنظمة السياسية الكبرى السائدة، والتي يختلف فيها دور البرلمان في إدارة الدولة، انطلاقا من خصوصية التجربة الديمقراطية لكل بلد. ومن خلال هذه الأنظمة، نجد أن دور البرلمان في إدارة الدولة يتجسد بممارسته لوظائف التشريع والرقابة وإقرار الميزانية، بالنظر إلى أهميتها بالنسبة لعملية تسيير الدولة، والتي يعتبرها دارسو القانون الدستوري والنظم السياسية المقارنة جوهر العمل البرلماني، بالنظر إلى أن الوظائف السابقة تتأثر بمجموعة من الاعتبارات والمحددات المؤثرة في فعالية دور البرلمان ليس فقط في إدارة الدولة بل في سمعة الوطن وأمنه واستقراره.
إن هذه الحقيقة هي التي دفعت إلى تسليط الضوء على مكانة ودور هذه المؤسسة الدستورية، التي لا يمكن حصرها في هذه المساهمة الخاصة في حقيقة الأمر، بل في بعض الجوانب المهمة لحياة المواطن والدولة، وهى جزء لا يتجزأ من حلقات المساهمات السابقة التي تناولت فيها بعض القضايا الوطنية التي تكتسى أهمية وطنية وغاية نبيلة لمواكبة رياح التغير وتأمين الانطلاقة الحقيقية في مسار بناء الجزائر الجديدة على أسس مبادئ ومقتضيات الدولة الحديثة، ألا وهى توطيد سيادة القانون، الحكامة الرشيدة، احترام حقوق الانسان، تنظيم ومشاركة المجتمع المدني وتحقيق التنمية المستدامة.
البرلمان والمجتمع المدني
يعد المجتمع المدني من المفاهيم الحديثة التي برزت بصورة واضحة على الساحة السياسية والاجتماعية في عصرنا الحديث وذلك باعتباره من أهم الآليات والوسائل التي تنظم العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالمجتمع المدني فرض نفسه اليوم كعنصر حتمي في تدعيم الديمقراطية، حيث لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في غياب العلاقة الوظيفية بين السلطة والمجتمع المدني، بل أصبح محرك الحياة وعنصر اتزان هاما لنشاط الدولة. ومن أنسب أوجه هذه العلاقة فإن البرلمان يمثل المؤسسة التمثيلية للمجتمع المدني، من خلال دوره في سنّ القوانين باسم المواطن وبفضل هذا التمثيل يبقى مفتوحا على المواطن ومصغيا لجميع انشغالاته.
وفى هذا الاطار، جاء نص المادة 117 من التعديل الدستوري 2020 بصريح العبارة على ما يلى: يبقى البرلمان في إطار اختصاصاته الدستورية وفيّا لثقة الشعب وتطلعاته، كما يكون مستقبل البرلمان مرتبطا بتدعيم وتنمية علاقته بالمجتمع المدني من خلال الانتخابات التشريعية وذلك بالنسبة للنواب المستقبليين، سواء كان ذلك ضمن الأحزاب أو القوائم الحرة الذين شرعوا في الحملات الانتخابية باستعمال مختلف الوسائل، كاللقاءات والتجمعات والاجتماعات الجوارية وفتح المداومات لاستقبال المواطنين حتى ينالوا ثقة الوصول إلى هذه المؤسسة التي تعد منبر تمثيل المواطن والتعبير عن طموحاته والمساهمة في معالجة انشغالاته للخروج بها نحو افاق التنمية والازدهار والرفاه، مما سيساهم في نفس الوقت بتحقيق الديمقراطية التشاركية، وتكريس مبدإ الرقابة الشعبية، تكريسا للمكاسب الدستورية والسياسية في تقوية مركز المجتمع المدني، باعتباره شريك تصور وإقرار. كما ان هذه العلاقة ستعطي دلالة على محورية المجتمع المدني، بداية بديباجة الدستور التي أشركت الجمعيات في تسيير الشأن العام، إلى تجسيد الإرادة السياسة لإعطاء المجتمع المدني مكانة أساسية ليؤدي أدوارا مهمة في الساحة الوطنية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تتجلى العلاقة بين البرلمان والمجتمع المدني من خلال تعريف أشغال البرلمان إعلاميا بالتفتح على محيطه بمختلف مكوناته، مستخدما كافة الآليات والوسائل الرسمية وغير الرسمية والسعي من خلال نشاطاته المختلفة من ندوات ومؤتمرات وملتقيات وإبداء اهتماما خاصا بالنشاط الفكري والثقافي والانفتاح على مختلف القضايا وانشغالات المواطنين من أجل تحقيق قيم التواصل والثقافة الديمقراطية والمواطنة الإيجابية او بنشاطاته التفاعلية مع مواهب المجتمع وفعاليات المجتمع المدني من أجل أخذ نظرة شاملة ودقيقة على ما يجري داخل المجتمع ويستجيب له.
وفي جانب آخر، فإن حضور ممثلي وسائل الإعلام في هذا الشأن وتزويد الصحافة بالمناقشات البرلمانية وإبلاغ الجمهور بالآراء والمواقف والقرارات، سيشكل ذلك أنجع وسائل التعريف الإعلامي بالنشاط البرلماني.
وفي إطار تحقيق مشروع إنشاء قناة تلفزيونية برلمانية، اعتبارا لما ستشكله من أهمية في دعم وتقوية التواصل بين المؤسسة التشريعية وعموم المواطنين، فهي بمثابة خطوة إيجابية من شأنها رفع مستوى أداء البرلمان القادم وانفتاحه على الرأي العام الوطني والدولي، مما يجعل منها قناة مهنية متخصصة في تقريب المعلومة البرلمانية من المواطنين ليكونوا على علم بكل ما يخص شؤون البرلمان، وهي التي ستصبح جسرا بين الشعب وممثليه، مساهمة في ترقية الممارسة الديمقراطية والفعل السياسي، وكأداة تفاعلية ناجعة تعمل على ترقية الثقافة الديمقراطية والتنمية السياسية، وهو ما سيكرس ثقافة المواطنة والحس المدني، ويوطد العلاقة بين البرلمان والمواطن ومختلف تمثيليات المجتمع المدني وباقي الشركاء الاجتماعين وفقا للتوجهات الجديدة في مسار بناء الجزائر الجديدة.
البرلمان والحكم الرشيد
إن تجسيد وترسيخ دولة الحق والقانون وتفعيلها وحمايتها باستمرار وانتظام، يقتضى منظومة قانونية وترسانة تخضع لها جميع مؤسسات الدولة وأعمالها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والإدارية لحماية المصالح العليا للوطن والمصالح العامة للمجتمع والدولة، فيظل نظاما رقابيا وطنيا محكما يتسم بالشمولية والفعالية من أجل ضمان تحقيق قيم وأهداف دولة القانون، ألا وهي تقوية مؤسسات الدولة وتقويم نظامها وترشيد أدائها وأخلقة وحماية مؤسساتها من كافة أسباب وأشكال ومظاهر الفساد السياسي والإداري والمالي، بالإضافة إلى تعزيز أهمية المجتمع المدني والمساهمة في تنظيمه وتفعيله كشريك حيوي فعال في منظومة الحكم وتسيير الشؤون العامة، فضلا عن تنمية وترقية المواطنة الصالحة، ورسم سياسات استراتيجية شاملة وفاعلة ومتكيفة لعمليات التنمية الوطنية اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا وتكيفيها مع المتغيرات والمعطيات الوطنية والعالمية لمواكبة التطور الحاصل والسعي إلى حياة أفضل.
ليست هذه جلّ مقومات الحكم الراشد، بل هي، من وجهة نظري، أهم العناصر التي يجب على البرلمان أن يساهم في تحقيق وتجسيد وتطوير آليات الحكم الرشيد، من خلال العهدة البرلمانية الجديدة بنظامها وطبيعتها ومهامها الدستورية والبرلمانية وهو بذلك يساهم في مسيرة البناء الوطني والديمقراطي وتحقيق المشروع المنشود.
وليس من السهل أيضا إقامة نظام الحكم الراشد، بالنظر إلى تعقيداته ومتطلباته الزمنية والظرفية. لكن للبرلمان دور أساسي ومهم في ترسيخ هذا النظام، بل تقع عليه المسؤولية الكبرى في بناء صرح هذا النظام الذى أصبح ضرورة وحتمية فرضت نفسها. وباعتباره المؤسسة الدستورية التمثيلة المسؤولة باسم الشعب والأمة على جميع العمليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدولة، فإنه يمثل الحصن الأشمل في تجسيد تمثيل الإرادة الشعبية للشعب والأمة في نفس الوقت في ممارسة السيادة والديمقراطية.
ولهذا يجب أن يضطلع، من خلال وظيفة التشريع، بمهمة سنّ منظومة قانونية تتميز بالإحكام والواقعية والمصداقية والنجاعة في ضبط المجتمع، وكذا تنظيم الدولة بصورة تضمن التعبير والتجسيد الصادق والأمين لإرادة الشعب والأمة في إقامة دولة القانون والحق والعدالة، كما يجب عليه أن يصون المصالح العامة العليا للدولة، ويحمي حقوق وحريات الإنسان والمواطن باستمرار، من خلال ممارسة وظيفة الرقابة البرلمانية بكافة صورها ووسائلها على أعمال السلطة التنفيذية بصورة خاصة.
وفي الاعتقاد أنه لكي يمكن للبرلمان أن ينجز ويحقق ذلك كله بصورة مضمونة وفعالة، ينبغي أن تكون المؤسسة البرلمانية قوية في وجودها وتنظيمها وتنظيم أعمالها وعلاقاتها الوظيفية مع سائر مؤسسات الدولة الدستورية.
فالبرلمان كمؤسسة من مؤسسات الدولة، له وظائف مبتغاها المساهمة في القيام بالمهام الملقاة على عاتق الدولة ضمن الحدود المرسومة في الدستور وضمن النظام السياسي والاجتماعي المختار، فإنه يتمتع بمكانة سيادية كمؤسسة برلمانية وكمؤسسة سياسية يناقش فيها قضايا الوطن والمواطن وهي القضايا التي لابد ان تكون فوق كل اعتبار، بعيدا عن كل تيارات البرلمانيين وميولاتهم الحزبية أو اتجاهاتهم المستقلة أو حتى أدائهم الفردى... وعلى هذا الأساس يجب ان يكون النقاش المستقبلي مساهما في إعطاء الحيوية للحياة السياسية، الاقتصادية والاجتماعية تغلب فيها التوجهات الوطنية، وان يصبح منبرا يجلب الاهتمام وإطار للنقاش الجماعي البناء في مختلف الملفات والقضايا التي تخدم المصلحة العليا للبلاد بحكمة وتبصر والوعي الرفيع وسبل الحوار والتفاهم في مناقشة القضايا وإيجاد الحلول المناسبة لمختلف الإشكالات والعوائق، من خلال المواقف الإيجابية للنواب، وهى المواقف التي تحقق الرشادة للأداء البرلماني في بلادنا والمصداقية التي ستسجل للنخبة البرلمانية مستقبلا.
بذلك يمكن القول، في إطار العمل البرلماني والممارسة الديمقراطية، يعد البرلمان بمثابة المنارة والحصن والقلعة التي يجب أن تعزز الممارسة الديمقراطية والتي تقوي وتعزز دور ومكانة السلطة التشريعية ورد الاعتبار لها، وتحقيق ديناميكية جديدة في هذا المجال. فإلى جانب الدور الذى يلعبه في العمل التشريعي والرقابي، فهو بذلك يساهم في تأمين التوازنات الكبرى في البلاد وفيما بين المؤسسات الدستورية وهو ما يعزز صمام الأمان واستقرار الدولة.
وبناء على ذلك، يظل البرلمان القوة السياسية والقانونية الوطنية الطلائعية الديمقراطية الحقيقية القادرة نحو نهج قيادة المجتمع والمواطن قيادة رشيدة، في إطار دولة القانون والمؤسسات، من اجل تحقيق المشروع الوطني لإقامة نظام الدولة الوطنية القوية، التي تسعى إليها دائما إرادة المجتمع الجزائري، بل هي حلم الأجيال.
البرلمان وحماية حقوق الإنسان
تعد حقوق الإنسان حجر الزاوية في البناء الديمقراطي. واحترام حقوق الإنسان ورعايتها هو عماد الحكم الراشد في المجتمعات الحديثة والسبيل الأمثل لإقامة عالم آمن مستقر. وقد أصبحت هذه الحقوق المعيار الرئيسي ومقياس الديمقراطية وممارستها. وبما أن البرلمان هو المؤسسة التي تمثل سلطة الشعب وعنوان إرادته، فإنه المؤسسة الأجدر والأولى برعاية حقوق الإنسان وإعلاء شأنها من خلال الدور المنوط به.
إن دور البرلمان في حماية وترقية حقوق الانسان بالغ الأهمية ولحكم وظيفته، فإن البرلمان فاعل أساسي بل يعد واحدة من الآليات الاساسية الوطنية لتعزيز حماية وترقية حقوق الانسان، وذلك باعتبار كذلك البرلمان ونوابه هم حقيقة حماة لحقوق الانسان بالمفهوم الواسع، خاصة إذا ما توفرت الشروط والعوامل المختلفة، كالتمثيل البرلماني والمسؤولية البرلمانية...إلخ، حيث يعتبر البرلمان الفضاء الطبيعي لتمثيل مختلف المكونات الفاعلة في المجتمع التي انتخبت وعبرت عن ثقتها للنخبة التي تقود الدفاع عن تطلعات المجتمع والاستجابة لانشغالاته.
فضلا عن ذلك، فإن تمثيل مكونات المجتمع يفرض الحضور النسوي وذلك لما للمرأة من رأي ونظرة خاصة للأشياء في مختلف مجالات الحياة السياسية الاقتصادية والاجتماعية، وعامل آخر لا يقل أهمية عن سابقه وهو أن النائب البرلماني باعتباره حاميا، فإنه هو نفسه محمي؛ بمعنى ان للبرلمان المسؤولية البرلمانية والحصانة البرلمانية والحرية التامة في التعبير دون أن يعرضّه ذلك لمتابعة او محاسبة إلا في حدود ما يسمح به القانون.
(يتبع)
الحلقــــة الأولى