الرياضياتي الشاعر الدكتور نذير طيار لـ»الشعب»:

ليس حسنا الوقوع في فخّ المُفاضلة بين العلوم والفنون..

حاورته: فائزة سعد لعمامري

التفكير الرياضياتي له حضوره في جميع حقول المعرفة

الفنان هو من يرقى بالذّوق لا من ينحطّ به

الشاعر ليس صياد جوائز وإن كنت لا أنكر دورها في ترقية الإبداع

تماهت فيه العبقرية الشعرية وعبقرية الرياضيات في صورة إبداعية نادرة، هو باحث في الرياضيات وموسيقى الشعر، إلى جانب نشاطه في الترجمة والصحافة.. إنه الدكتور نذير طيار، أحد شعراء «ملحمة قسنطينة»، وأستاذ محاضر في إحدى جامعاتها.. «الشعب» التقته، فكان هذا الحوار..

-  بداية، صاحب دكتوراه في الرياضيات، أستاذ جامعي وباحث في مجال تخصّصك، وأنت كذلك من الشعراء المقتدرين، ألا تشعر بالتناقض بين تعدد تخصّصاتك؟ كيف نشأت علاقتك بالأدب وأنت مغرق في الرياضيات؟
 هو تكامل ذاتي جاء لينسجم مع تكامل موضوعي بين العلوم والفنون يتجلى يوما بعد يوم، لأني أؤمن بتداخل العلوم والفنون. كما أعتقد اعتقادا راسخا بوهمية الحدود بين علم وعلم أو فن وفن. وقناعتي أن هذه التصنيفات المختلفة هدفها إجرائي محض لتسهيل عملية البحث وتوجيهها في عصر الميكرو-اختصاص، وليس عصر الاختصاص فحسب. أُفَضِّل مصطلح علم الإنسان لا العلوم الإنسانية، فالإنسان كل متكامل، وهذا العصر هو أشد كشفا لهذا التداخل بين العلوم والاختصاصات جميعا، كالعلاقة بين الفلسفة والأدب، أو بين التعليمية وبين الابستيمولوجيا وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي.
أنا مشدود منذ الصغر إلى اقتحام الفضاءات الملغَّمة قصد تفكيك جميع ألغامها، نشأت مولعا بالمطالعة العابرة للعلوم والفنون منذ الصغر، فقد كانت مكتبة بيتنا سنوات السبعينيات من القرن الماضي، تعجّ بالكتب والمجلات والقواميس، كتبتُ أول قصيدة شعرية لي، سليمة لغويا وعَروضيا في الرابعة متوسط. وتعلَّمت العروض من الكتاب المدرسي لأخي سليمان (المحضِّر القضائي المسكون بفكر مالك ابن نبي)، ولا أزال أحتفظ بهذا الكتاب ضمن كنوزي الثمينة.. حبي للشعر وحبي للرياضيات، نشآ معا وكَبُرا معا. وحينما حصلت على البكالوريا سنة 1986 بتقدير جيد، كدت أسجل في قسم الآداب، لولا نصائح أخي الفيزيائي الهادي وأصدقائه، فقد قالوا لي: «إن تركت العلوم الدقيقة الآن، فلن يمكنك التبحر فيها مستقبلا»، ولأني كنت بارعا في الفيزياء والرياضيات، سجلت في اختصاص العلوم الدقيقة ثم اخترت الرياضيات.. أذكر أنني حاولت قراءة رواية «الطعنات» للطاهر وطار بعد حصولي عليها كجائزة ضمن التكريم السنوي للمتفوقين بالمتوسطة. كانت بعض عباراتها العاطفية أكبر من سني، وخادشة لثقافتي الغضة الطرية. وأذكر أيضا أنني كنت متحمسا جدا لرواية «التفكك» لرشيد بوجدرة لأجل قراءتها فور صدورها بالعربية، وفي اليوم الموعود كنت عند الشيخ بوشاشي وابنه كمال رحمهما الله بالمكتبة الجزائرية، لأجل اقتنائها لكنني تراجعت عن ذلك بمجرد اطلاعي على أول صفحة فيها، بسبب عبارات لم تستسغها ثقافتي.. وكانت ثاني رواية جزائرية قرأتها في المرحلة الثانوية، روايةُ ‘اللاز» للمرحوم الطاهر وطار، أثارت اهتمامي بشخصية بولرواح وتفاصيلها عن مدينتي قسنطينة. أما أول رواية عربية، قرأتها ولا يزال مفعول سحرها يملأ جوانحي، فكانت رواية «هاتف من الأندلس» للأديب المصري علي الجارم.

- إلى جانب البحث الرياضي د.نذير طيار باحث في مجال موسيقى الشعر، سنتحدّث عن الجمع بين الرياضيات والأدب، وأنت مَن تّحدثت عن عبقرية الخليل ابن أحمد في ميزان الرياضيات المعاصرة.. هاجسك الأول اكتشاف المعادلة الرياضية التي تحكم العروض العربي.. هل الولع بالرياضيات جعلك تُقحمها في كل شيء، أم الولع بالشعر المنظوم على الطريقة الكلاسيكية هو ما لفت انتباهك للقيام بإسقاطات رياضية؟
  ليس الأمر إقحاما مني للرياضيات، بل هو تعبير عن واقع قائم تسجل الرياضيات فيه حضورها الدائم. وأضيف لما سبق: هناك إجماع عالمي من المختصين، علمي وسياسي واقتصادي، على مركزية الرياضيات في كل تقدم تكنولوجي أو اقتصادي. فالرياضيات موجودة في كل مكان، في حياتك اليومية، وفي علم الانسان، والعلوم الدقيقة والعلوم البيولوجية، وحتى الفائزين بجائزة نوبل في الاقتصاد، إنما حققوا ذلك لنبوغهم في الرياضيات.. إن المختصين في الرياضيات هم أصحاب المهن الأعلى أجرا في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الرياضيات لا تصنع شيئا مفردة، أي دون فيزياء وكيمياء وبيولوجيا وعلوم هندسة وروح فنان تسكن صاحبها.. لم تعد الرياضيات لغة المنطق الثنائي فحسب، منذ ظهور المنطق الضبابي Fuzzy logic، تحرر المنطق من الالتزام بالصفر والواحد فقط.. أصبحنا أمام منطق متعدّد القيم، منطق الثالث الشامل le tiers inclu، وليس الثالث المرفوع le tiers exclu، ولقد أوضحت في مقالتي أن الخليل ابن أحمد اعتمد في إعداده لمعجم العيْن، منهجا رياضياتيا في حساب الكلمات العربية، الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية، المستعمَلة والمهمَلة، يقوم على تغيير مواقع الحروف وفق كل الحالات الممكنة، وهو ما يُعرَف في الرياضيات الحديثة بالتبديلات والترتيبات التي تُشكِّل جزءا رئيسيا من فرع مستقل يُسمَّى «التحليل التوفيقي». والأمر نفسه سار عليه في حصره لأوزان الشعر العربي بتبديله المواقع بين المتحرّك والساكن لاستخراج الأسباب والأوتاد أولا، ثم بتبديل المواقع بين هذه الأخيرة لاستنتاج التفعيلات الممكنة ثانيا، وأخيرا بتبديل مواقع هذه الأخيرة للحصول على كل البحور الشعرية الممكنة.
من جهة أخرى يؤكد الباحثون حضور التفكير الرياضي في النحو العربي، وهناك اليوم ما يعرف بعلم اللغة الرياضي واللسانيات الحاسوبية، وكلها دلائل علمية قوية على العلاقة الوطيدة بين اللغة والرياضيات. أما بشأن الشعر، فليس الانتظام الذي يختزنه الإيقاع هو القاسم المشترك الوحيد الذي يجمعه بالرياضيات. يقول الرياضياتي الألماني كارل فرستراس (1815-1897): «الرياضياتي الذي لا يكون شاعرا قليلا لا يمكنه أن يكون رياضياتيا كاملا..

- كنت واحدا من الشعراء الذين كتبوا ملحمة قسنطينة، وقسنطينة كانت مدينة ملهمة لكثير من الأدباء، ما الذي أضافه لك انتماؤك إلى هذه المدينة؟
 قسنطينة مدينة صخرية، والرابط بين صخورها هو الجسور المعلَّقة، وذاك مبعث السحر والجاذبية فيها.. ربما أشبهها لأنني وصلت بين بعض الجزر الإبداعية المتباعدة، فكنت أحد الجسور الرابطة بينها جميعا، رغم صعوبة الانتقال من جزيرة إلى أخرى، وعسر التأقلم مع أجواء كل جزيرة جديدة. ما يجب أن تكون عليه قسنطينة أننا نريد هيمنة كلية لثقافة المضامين على ثقافة الأشكال، تفاعلا واعيا بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر، إنزال الثقافة إلى الجماهير.. وتقريب الفنان أكثر من الجمهور.. الفنان الذي يرقى بالذوق ولا ينحط به.. الإقامة في قسنطينة تعني الاقتراب الجغرافي والروحي أكثر من مالك ابن نبي وابن باديس ومالك حداد..

- الرواية هي موضة العصر، هل فكرت في خوض غمار الكتابة الروائية؟
 أفكر منذ فترة في كتابة رواية تحمل اسم ابن الخباز (Le fils du boulanger)  بدأت ملامحها ترتسم في ذاكرتي، ستكون إن شاء الله عبارة عن رواية سيرة-ذاتية، لكن الشعر لم يسمح بعد بذلك، مازال يفرض سطوته على نفسي وعقلي.

-  هناك من يهزأ بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، على أساس أن ما هو تطبيقي من العلوم هو وحده رفع الغبن عن الإنسان المعاصر.. وأنت تنشط في الحقول العلمية على اختلافها، كيف ترد؟
 من الخطأ الوقوع في فخّ المفاضلة بين العلوم والفنون في عصر تداخل الكل في الكل، كما قلت سابقا. الإنسان ليس آلة حتى يحتاج إلى التكنولوجيا فقط، إنه نسيج من نفس وعقل وقلب، وهو الحجر الأساس في كل تنمية أو حضارة، ودراسة سلوكاته الفردية والاجتماعية، ونفسيته الداخلية وتفاعلها مع المحيط، أمر جوهري لا يمكن القفز عليه.. بيد أن هذا التداخل لا يلغي الفروق والاختلافات، لهذا نتحدث عن إجماع الرياضياتيين واختلاف الفلاسفة. فما يطرحه فيلسوف هو رؤية علمية في مقابل رؤى علمية مختلفة، وهذا شأن العلوم الإنسانية عموما؛ لهذا نتحدث عن كونية السؤال الفلسفي وتعددية الإجابات تبعا للثقافات والرؤى الفكرية والمذاهب الدينية والفلسفية، وإذا كان المتصوفة قد تحدثوا كثيرا عن الإنسان الكامل، فإني أؤمن بالعالم المقارب للكمال، وهو العالم العابر للاختصاصات، الممسك بشيء من كل علم، الممتلك للنظرة الموحِّدة للعلوم، وقناعتي أن هذه التصنيفات المختلفة هدفها إجرائي محض لتسهيل عملية البحث وتوجيهها في عصر الميكرو-اختصاص، وليس عصر الاختصاص فحسب.. أُفَضِّل مصطلح علم الإنسان لا العلوم الإنسانية، فالإنسان كل متكامل، وليس مجموعة من قطع الغيار يهتم كل علم بدراسة قطعة واحدة دون غيرها، وهذا العصر هو أشد كشفا لهذا التداخل بين العلوم والاختصاصات جميعا، كالعلاقة بين الفلسفة والأدب، أو بين التعليمية والابستيمولوجيا وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي.. تاريخيا تزامن إعلان شارل دروين عن نظريته مع بداية التصنيع والمكننة وشيوع الأفكار الرأسمالية في المجتمع الانجليزي، وفكرة الانتخاب الطبيعي لم تكن بعيدة عن فكرة البقاء للأقوى اقتصاديا: «إذا كنتَ متكيفا تُنتجْ وإذا لم تتكيفْ لا  تُنتِجْ». والذين لا ينجحون في الإنتاج يظلون فقراء. وهناك دراسة علمية حول بدايات النظرية الخلوية في البيولوجيا وعلاقة ذلك بعلم الاجتماع في تلك الفترة؛ لهذا أؤمن بالمقاربة التاريخية الإبستيمولوجية في الدرس العلمي في جميع أطواره حيث يلتقي العلم بالتاريخ والفلسفة والمجتمع.. لا يمكننا عزل العلم عن سياقه الفلسفي والأدبي والفني والاجتماعي في مرحلة ما، الهندسة الإقليدية الإغريقية عن بداية الديمقراطية أو مسائل ديكارت عن إرادة التقدّم في القرن السابع عشر.

- منذ 1996 إلى اليوم، فزت بـ13 جائزة وطنية ودولية في الشعر والفكر، ما الذي يمثله لكم تعدّد الجوائز الأدبية التي حصلت عليها؟

الشاعر الحقيقي ليس صياد جوائز، وبالمقابل ليس الشاعر المراكم للجوائز متهما بشيء، بمعنى: أن الشاعر لا يكتب ليفوز بجائزة، لكن الجائزة المستحقة قد تكون تتويجا لمسيرة ومسار وتعبير عن بلوغ نضج ما، فليست الجوائز مهنة الشاعر ولا شغله الشاغل. وأنا لا أنكر الدور التحفيزي للجوائز في ترقية الإبداع الأدبي والفكري ودفع الإنجاز الإبداعي إلى قمته.. تعدد الجوائز الأدبية بالنسبة لي، هو ترسيخ لحضور الإبداع في نصوصي وتنوع أشكاله.

- لديك إسهامات عديدة في الترجمة، لعلّ أبرزها كتاب «السياسة الثقافية الفرنسية بالجزائر» الذي ألفه «كميل ريسلير».. والأعمال التي ترجمتها فكرية، لكن أدبيا، يُقال إن ترجمة النص الأصلي إلى لغة أجنبية يظلمه؛ لأن اللغة البديلة لا تستطيع نقل الفكرة ولا الإحساس ولا الصورة البيانية كما هي في النص الأصلي، ما رأيك؟
 برغم ميلي إلى ترجمة المقالات والكتب العلمية أكثر، فقد ترجمت أيضا بعض النصوص الأدبية، ترجمت ما كتبه أب القصيرة غي دو موباسان عن قسنطينة في كتابه (إلى بلاد الشمس) كما قمت بترجمة القصيدة الانجليزية I was born to make you  happy   للشاعر والموسيقي K .Lundin إلى العربية، وأعدت ترجمة قصيدة البحيرة الشهيرة للامارتين إلى العربية.
الترجمة عندي علم وفن في الوقت نفسه، والمترجم البارع هو الذي لا يشعُر قارئ ترجمته أنها وليدة ترجمة.. التحدي التاريخي الثابت للمترجم هو التوفيق بين ثنائيتي الوفاء والجمال، الوفاء لأفكار صاحب النص الأصلي وجمال النص في اللغة الهدف، أي المترجم إليها. وهي في مجال الأدب سيما الشعر، أعقد وأصعب وينطبق عليها المثل: الترجمة مثل المرأة (الغربية) لا يجتمع فيها الوفاء والجمال. فلا يمكن تذوّق شكسبير فعلا إلا بالإنجليزية ولا المتنبي إلا بالعربية ولا هيغو إلا بالفرنسية ولا كافكا إلا بالألمانية ولا الخيام إلا بالفارسية ولا طاغور إلا بالبنغالية.. الخ. الترجمة حجاب يقف بينك وبين النص الأدبي مهما نقلت إليك من مضامينه.. الترجمة الأدبية نقل للنص الشعري مع ضياع الكثير في الطريق ويصدق فيها هنا المثل الإيطالي «traduttore, traditore» (الترجمة خيانة). هناك قيم ثقافية وحمولات تاريخية ذاتية في ألفاظ وتراكيب كل لغة لا يمكن للغة الأخرى أن تعبر عنها بدقة ناقلة للدلالة الحقيقية.

- حضرت قبل أيام حفل إصدار «معجم الثقافة الجزائرية» بدعوة من المجلس الأعلى للغة العربية.. هل من كلمة؟!
 سعيد جدا بصدور الجزء الأول لمعجم الثقافة الجزائرية الذي يشرف على إنجازه المجلس الأعلى للغة العربية، وهو جهد عظيم فاعل قامت به لجنة علمية نشيطة لحماية الذاكرة الجزائرية في كل شبر من ربوع هذا الوطن، وقد كنت مشرفا فيه على تاريخ قسنطينة وتاريخ العلوم بالجزائر من العصر النوميدي إلى اليوم.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19468

العدد 19468

الأحد 12 ماي 2024