البروفيسور نصر الدين لعياضي لـ «الشعب»:

الصّحافة الجزائرية كوّنت أقلاما مميّزة ورافقت الاقتصاد الوطني

حوار: فايزة بلعريبي

-  الإعلام شريك استراتيجي للاقتصاد وتقييده يروّج للمعلومة المغلوطة

- نحتاج إلى إعلام اقتصادي قوي يساهم في صنع القرار

- نعيش عصر الاندماج الاقتصادي في ظل العولمة وينبغي المواكبة

- رقمنة الاقتصاد تتطلّب بنية قاعدية قويّة

 

 مع التّحوّلات السّريعة التي عرفها العالم، احتدم الصّراع بين مختلف دول العالم بما فيها عمالقة الاقتصاد، وتتحوّل حرب القنابل إلى حرب سنابل من أجل تأمين الغذاء، وأصبح الضغط على زر جهاز الحاسوب أكثر فتكا من الضغط على زناد رشاش، ويصبح الهاكرز أكثر شراسة من أقوى جندي..هي الحرب الرقمية التي أعلنها التحول التكنولوجي. وتتحوّل آبار البترول إلى بطاقات حمراء تقصي الدول التي لم تتمكّن من ملء خزاناتها، من منطقة الأمن الطاقوي. الحرب من أجل البقاء، الإعلام هو الحكم الرئيس، الذي سيفصل في نتائجها، ومنه برزت الحاجة إلى إعلام متخصّص قوي لمرافقة الاقتصاد الوطني، وحمايته من البيانات والفرضيات الخاطئة.
البروفيسور نصر الدين لعياضي، من منبر الأستاذ المؤطر، صاحب الباع الطويل في مجال الإعلام، خصّ يومية «الشعب» بحوار كان فيه من التوجيه لجيل الإعلاميّين الناشئ، حول ضرورة التحلي بالاحترافية في معالجة القضايا الاقتصادية من أجل تقديم صورة واقعية عن معطيات الاقتصاد العالمي والوطني، يمكن الاستناد عليه كركيزة، لتسطير الاستراتيجيات التي ستقود الاقتصاد الوطني إلى منطقة الأمان.


-   الشعب ويكاند: عشية الاحتفاء باليوم العالمي للصّحافة، الذي يأتي في ظل تحولات عالمية كبرى، منحت الكلمة الأخيرة للاقتصاد، وباعتبار الإعلام أداة من أدوات تشكيل الرأي العام، ومساهما لا يستهان به في صنع القرار، يقودنا الحديث إلى التطرق إلى نوع خاص من الإعلام، وهو الإعلام الاقتصادي..فهل من الممكن بروفيسور، إعطاؤنا لمحة عن هذا النوع من الإعلام، ومكانته في الساحة الإعلامية الوطنية؟
 البروفيسور نصر الدين لعياضي: هناك محاولات متكرّرة لإنشاء بعض البرامج الاقتصادية التي تظهر وتخفي. وبعضها يستمر دون أن يترك الأثر المطلوب، سواء على مستوى الأشخاص مستهلكين كانوا، مستثمرين، أو على مستوى مركز صناعة القرار الاقتصادي والسياسي. كذلك الأمر بالنسبة للصّحافة المكتوبة التي تخصص ملاحق موسمية للاقتصاد، ثم تتراجع. والحجة التي تبرر بها تراجعها تكون في الغالب، هي أنّ الاقتصاد مادة جافة، وطاردة لجمهور القراء والمستمعين والمشاهدين.
حقيقة لقد عرفت الصحافة الجزائرية بعض الأقلام المتميزة في مجال الاقتصاد في السبعينات والثمانيات من القرن الماضي، في جرائد «الشعب»، «المجاهد» و»الجزائر الأحداث» ومجلة الثورة الإفريقية، وكانت كلها مختصة في النفط لأسباب معروفة آنذاك، حيث كان النفط محور النزاعات الدولية، ومصدر الأزمة الاقتصادية، خاصة بعد حرب أكتوبر 1973، حيث كانت الكتابة عن الاقتصاد في تلك السنوات تميل إلى الاقتصاد الكلي، أي التركيز على التوازنات الكبرى. وارتبطت بالتنمية من خلال الثورة الزراعية والثورة الصناعية، واكتست طابعا دعائيا وترويجيا وتجنيديا، وتتغذّى من الخطابات أكثر من الوقائع الملموسة.
وقد رزح هذا الفهم للاقتصاد بثقله على العمل الصحفي لتظهر الصحف والمجلات الاقتصادية التي ظهرت بعد الانفتاح الإعلامي، والتوجه نحو اقتصاد السوق في تسعينات القرن الماضي. وأتذكّر حينها، أن السيدة حورية فيلالي، الصحافية السابقة في وكالة الأنباء، قد أنشأت وكالة أنباء متخصصة في الاقتصاد في منتصف تسعينات القرن الماضي، لكنها اضطرت إلى غلقها بعد أشهر فقط. فالطلب على الخبر الاقتصادي في سوق الإعلام الوطني شحيح، إن لم يكن منعدما آنذاك، فلا مؤسّسات ولا شركات وطنية تحتاج إلى أخبار اقتصادية طالما أنها موجهة من قبل هيئات عليا.
-  على ضوء ما قلتم، فأنتم تؤكّدون على دور الإعلام الاقتصادي، ومهمّته كشريك استراتيجي للاقتصاد؟
 بالطبع، يقدّم الإعلام خدمة جليلة للاقتصاد، ويتجلى ذلك من خلال تقديم الأخبار للمستهلكين والمستثمرين ورجال المال عن الوضع الاقتصادي وتفاصيله، ومساعدة أصحاب القرار في تقييم الوضع الاقتصادي، واتخاذ التدابير اللازمة والحيطة والتخطيط للمستقبل في مختلف قطاعات النشاط الاقتصادي. كما أنه يساهم في شرح وتفسير الظواهر الاقتصادية والأزمات كالكساد، التضخم، الندرة، الادخار، وتوضيح مجالات الاستثمار الفضلى وفرصه في هذا الظرف أو ذاك.
إضافة إلى ذلك يلعب الإعلام الاقتصادي دورا مهما في إضفاء الشفافية على النشاط الاقتصادي في البلد. وهذا يتطلّب منح الحرية للإعلام، فكلفة تقييد حرية الإعلام في المجال الاقتصادي تحديدا، تكون عالية وعديمة الفائدة، لأنّ مصادر المعلومات الأجنبية أصبحت متعدّدة ومتنوّعة ومتاحة، ويمكن أن تروّج لمعلومات خاطئة ومزوّرة تلحق ضررا بالغا بالاقتصاد الوطني.
-   نعيش اليوم صراعا كبيرا بين عمالقة الاقتصاد العالمي، ومحاولات التموقع من طرف البلدان التي تعمل على بناء اقتصاداتها في ظل المتغيرات الجديدة. صراع من أجل البقاء، يستعمل سلاح المعلومة..في نظركم أيّ دور سيلعبه الإعلام الاقتصادي في ظل التكتلات الاقتصادية التي يعرفها العالم اليوم؟
 نحن نعيش في عصر الاندماج الاقتصادي في ظل العولمة، فيكفي أن ننشر خبرا بسيطا عن عطب تقني أو إضراب للعمال في حقول النفط في هذا البلد أو ذاك، لتلتهب أسهم البورصات الكبرى في العالم بعد ثواني من نشر الخبر. فالاقتصاد تعولم، ومن يشك في ذلك، فلينظر إلى تداعيات الحرب في أوكرانيا على الغاز والغذاء في كل بقاع العالم تقريبا. فالإعلام يساهم في الكشف عن الرهانات الاقتصادية الكبرى في العالم، ويساهم في حماية الاقتصاد الوطني، وفي توجيهه نحو الأسواق ذات المنافسة المنخفضة أو المنعدمة، ويرقي الاستثمار في أرجاء المعمورة. فبفضل المعلومات الاقتصادية الدقيقة، استطاعت بعض الدول أن «تستفيد» من الأزمة الاقتصادية في اليونان، وأن تستثمر في القطاع الزراعي في أستراليا، وذلك بغية تحقيق أمنها الغذائي لأن الرهان الكبير الآن يدور حول التنمية المستدامة. لقد أدركت أنّه بإمكانها أن تستنزف ثروتها النفطية في عدد محدود من السنوات، وتحقّق العيش الرغيد لأبنائها اليوم، ثم ماذا عن الغد؟ إنّ مسؤوليتها التاريخية هي تأمين مستقبل أبنائها والأجيال القادمة.
-  تناولت لقاءات مجالس الوزراء والحكومة، محور الرقمنة كأولوية لا بد من تحصيلها من أجل مواكبة التحولات التكنولوجية التي يعرفها العالم، بل وأصبحت محرّكا للاقتصاد وغيره من القطاعات..كيف ترون واقع الرقمنة اليوم؟ وأين نحن من تحصيله؟
 لم يعد الاقتصاد العالمي يرتكز اليوم على الصناعات الثقيلة الكبرى في مجال الميكانيكا أو الالكترونيات. وثروة الأمم لم تعد تقاس بحجم احتياط النفط والبترول ومواد الخام، بل أصبحت تقدّر بحجم البيانات ومدى امتلاك تكنولوجيا الاتصالات وتطويرها. وخير مثال على ذلك هو سنغافورة التي لا تملك نفطا ولا مناجم لكنها في مصاف أقوى الاقتصاديات في العالم.
جميل القول أنّنا نتّجه إلى الرقمنة، لكن كيف؟ رقمنة الاقتصاد تتطلّب بنية قاعدية رقمية قوية، شبكة الانترنت ذات التدفق العالي وفي متناول أكبر عدد من المواطنين. كيف يمكن الحديث عن رقمنة الجامعة والكثير من الكليات محرومة من شبكة الانترنت، ناهيك عن قاعات التدريس بها وعن أساتذتها وطلاّبها؟ وعن أيّ رقمنة نتحدّث عندما نعلم أن قطاعا واسعا من الأساتذة في الجامعة لا يستخدم الكمبيوتر في التدريس؟
لقد لجأت بعض الدول إلى تشجيع مواطنيها على استخدام التكنولوجيا الرقمية من خلال المنح والقروض لإدخال أجهزة الإعلام الآلي إلى الأسر، وخفض سعر الاشتراك في الانترنت. إنّ الرقمنة تساعد الدولة على توفير الكثير من المال والوقت، وتخفّف حتى من زحمة المرور نتيجة انتقال المواطنين بين الإدارات سعيا وراء المعاملات الورقية. حقيقة لقد أنجزت بعض الأمور مثل استخراج بعض الوثائق عبر شبكة الانترنت، لكن لا زال أمامنا الشيء الكثير لعصرنة المؤسسة التربوية والجامعية والشركات الاقتصادية وقطاعات الخدمات: النقل، الفندقة والسياحة، وغيرها.
-  الإعلام كشريك للاقتصاد الوطني، كما تفضّلتم، كيف يمكنه التدخل وتقديم الإضافة في ظل التحولات الاقتصادية الكبرى التي تعيشها بلادنا؟
 أتذكّر جيدا الجدل الذي كان دائرا بين مجلة «الثورة الإفريقية» و»الجزائر الأحداث» في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي حول خوصصة المؤسسات الاقتصادية؟ أين نحن من ذاك الجدل؟ أتذكّر مؤتمرا اقتصاديا حول توجّه الجزائر الاقتصادي، شاركت فيه نخبة من الاقتصاديين الجزائريين والأجانب والمتعاملين الاقتصاديين الجزائريين، حول مبرّرات خوصصة المؤسسات الاقتصادية الجزائرية وآلياتها. وكان نقاشا ثريّا ومنيرا، فأين نحن الآن من هذا النقاش؟ لقد تمّت خوصصة المؤسسات الاقتصادية في غفلة من وسائل الإعلام، وجرت كأنّها فعل سري، ولم تتساءل وسائل الإعلام عن نتيجة هذه الخوصصة، إن لم نسميها تصفية القطاع العام. كما لاحظنا غيابا كليا للتحقيقات الصحفية التي كان من المفروض أن تقوم بها وسائل الإعلام الجزائرية، عن تجارب الخوصصة في بلدان أوروبا الشرقية وفي أمريكا اللاتينية، حتى يستفيد منها أصحاب القرار السياسي والاقتصادي في الجزائر. وأخشى أن تظل وسائل الإعلام الجزائرية في غفلة عن التحولات الاقتصادية الجارية في البلد، ولو أن الأمر سيكون مختلفا هذه المرة، حيث ستتولى مواقع الشبكات الاجتماعية المهمة لتصبح مصدر ضغط على السلطات العمومية وموجها لها.
-  ونحن نحتفي باليوم الوطني للصّحافة، ما الكلمة التي توجّهونها للجيل الإعلامي الناشئ من أجل إعلام متخصّص محترف، يساهم في تسطير الاستراتيجيات التي يقوم عليها الاقتصاد الوطني، وحمايته من المعطيات والبيانات المغلوطة؟
 يبدو الحديث عن إعلام متخصص محترف بالنظر إلى تجربتنا في هذا المجال. وبالنظر أيضا إلى تراجع أداء الكثير من المؤسسات الإعلامية، وإلى الأزمة الخانقة التي تعاني منها اليوم.
إنّ الإعلام الاقتصادي يحتاج إلى كفاءات تتولد عن تكوين صحافيين مختصين في الاقتصاد، وإنشاء مراكز للإحصاء والدراسات الاقتصادية تكون مستقلة عن السلطة السياسية وعن رأس المال، بحيث توفر الإحصائيات والبيانات الاقتصادية النزيهة وذات المصداقية العالية، ومنح الحرية لتداول الرأي والفكر في المجال الاقتصادي.
إنّ الإعلام الاقتصادي يتطلب تطليق الصحافة الجالسة، أي تلك القابعة في قاعة التحرير تنتظر ما يصلها عبر الفاكس أو البريد الإلكتروني من بيانات رسمية بخصوص هذا القطاع الاقتصادي أو ذاك. إنّه يتطلب الانتقال إلى الميدان وإجراء التحريات مع العديد من المصادر الإخبارية، وإبراز وجهات النظر المختلفة التي تنير السلطات فيما تتخذه من قرارات اقتصادية.
الإعلام المتخصّص في الاقتصاد يتطلّب من وسائل الإعلام المختلفة الابتعاد عن الركض وراء الفضائح التي قد تجلب الكثير من القراء والمشاهدين، لكنها تضر بهم إن آجلا أو عاجلا. فالأمر يتطلب إعادة الفهم لما هو الاقتصاد، فالجمهور يعتقد أنه غير معني بالأمور الاقتصادية لأنها شأن خاص بالحكومة، وقد سايرته وسائل الإعلام المختلفة في هذا الفهم بينما كل ما يقوم به المواطن يصب بشكل أو بآخر في الاقتصاد. وهذا يعني أنه على وسائل الإعلام أن تُنزّل الاقتصاد من برجه العاجي، وتحرّره من الخطاب التقني أو الديماغوجي إلى حياة المواطن اليومية. عمليا، يجب على وسائل الإعلام ألا تكتفي بالحديث النظري والتجريدي على الإحصائيات والأرقام والأسعار والعملات، بل عليها أن تخاطب المواطن بالملموس مثلا: كيف تكون منحة المتقاعد بعد الزيادة بشكل ملموس؟ وكم يصبح راتب هذا الموظف أو ذاك بعد الزيادة؟ وما هو سعر السيارة المستوردة من الخارج وتلك المصنعة في الجزائر بالعملة الوطنية، وغيرها من الأمثلة العملية.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19468

العدد 19468

الأحد 12 ماي 2024