28 حالة تمّ دمجها بنجاح في التعليم المدرسي لذوي الهمم
فتح آفاق جديدة لذوي الهمم من خلال إنشاء مؤسّسات مصغّرة
حقّقت الجمعية الولائية “وصال” لسلامة صحّة الأسرة والشباب والفئات الهشّة بولاية الجلفة، بقيادة رئيستها السيدة داودي عائشة، المختصّة الاجتماعية، سلسلة من النجاحات في دعم وتمكين فئة ذوي الهمم. من خلال برامج مبتكرة مثل “الأم الدّاعمة” والدورات التكوينية للمعلّمين، كما توسّعت جهودها لتشمل إبرام اتفاقية مع مؤسّسة القرض المصغّر، لفتح آفاق جديدة لذوي الهمم عبر دعم إنشاء مشاريع مصغّرة، في خطوة تعزّز استقلاليتهم وتمكينهم الاقتصادي.
في هذا الحوار مع “الشعب”، تكشف السيدة داودي عن أبرز المبادرات والبرامج التي أطلقتها الجمعية، والتحدّيات التي تواجهها، وخططها المستقبلية لتطوير الأداء وتحقيق استدامة أكبر لجهودها في خدمة الفئات الهشّة.
”الشعب”: بداية..نودّ التعرّف أكثر على أهداف الجمعية وأبرز الفئات التي تستهدفونها؟
عائشة داودي: جمعية “وصال لسلامة صحّة الأسرة والشباب والفئات الهشّة” في ولاية الجلفة، تأسّست في 2019، تعنى بالتكفّل بحالات ذوي الهمم العالية مثل التوحّد والتريزوميا والتأخّر الذهني، من أعمار 4 سنوات إلى 29 سنة، لدينا طاقم مختصّ يتكوّن من أخصّائيين نفسانيين، أرطفونيين، بيداغوجيين، واجتماعيين، إلى جانب مربّيات.
كما قمنا بفتح فرعين للجمعية في بلديتي القديد والشارف لتقليل عناء التنقل اليومي على الأطفال وأسرهم، وأصبح يتنقل الطاقم إليهم لتقديم الخدمات في هذه الفروع.
في جمعية وصال لسلامة صحّة الأسرة والشباب والفئات الهشّة، يوجد أكثر من 160 طفلا في برنامج التكفل، الذي يهدف إلى دعم دمج الأطفال ذوي الهمم في النظام التعليمي.
أحد البرامج الرئيسية في الجمعية هو برنامج التحضير للدمج، الذي يشرف عليه طاقم من الأخصّائيين النفسيين، ويركّز على معالجة السلوكيات السلبية لدى الأطفال، مثل فرط النشاط، عدم الاستجابة للأوامر، وضعف التواصل البصري واللغوي.
كما بدأنا بتقديم برنامج يتضمّن ورشات وأقسام يتم فيها تحضير الأطفال ذوي الهمم العالية في أقسام افتراضية، في بيئة تحاكي البيئة المدرسية.
ثم يتابعون برامج بيداغوجية مع مختصّين. بعد فترة، يتم دمجهم في المؤسّسات التعليمية العادية والخاصّة، القريبة من محلّ سكنهم. لدينا حاليا 28 حالة تمّ دمجها بنجاح، أغلبها في أقسام عادية، وكلّما كان التدخل مبكّرا، كانت النتائج أفضل، كما يظهر من تحسّن بعض الحالات مثل تقليل فرط الحركة وتحسين استجابة الطفل للأوامر. كذلك من العوامل الأساسية ساعدتنا على نجاح الدمج، هي أنّنا نرافق الأطفال حتى في مدرستهم لمتابعة تقدّمهم.
ما هي أهمّ المبادرات التي أطلقتها الجمعية لتحسين الدمج المدرسي لهذه الفئات؟
أبرز المبادرات كانت الدورة التكوينية للمعلّمين التي استهدفت حوالي 200 معلّم عبر 5 مقاطعات، لتوعيتهم باضطرابات التوحّد وكيفية التعامل مع الأطفال ذوي الهمم.
كما نقدّم برنامج “الأم الدّاعمة”، الذي يساعد الأمهات على التعرّف على سلوكيات أطفالهنّ وكيفية التعامل معها، ويشمل كذلك تدريبا مباشرا للأمهات مع أطفالهنّ.
إلى جانب ذلك نطبّق برنامجا شاملا يبدأ من التشخيص المجاني للحالة بمساعدة أطباء وأخصّائيين، ثم يتم تصنيف الطفل ووضع خطة تدخل فردية. ولدينا أقسام افتراضية وأخرى تحضيرية تساعد الطفل على التكيّف مع البيئة المدرسية. على سبيل المثال، الطفل قويدري منير، الذي كان يعاني من فرط الحركة وعدم التواصل، تمكّن بعد عام ونصف من التخلّص من السلوكيات السلبية وأصبح مستعدّا للدمج في قسم عادي.
حدّثينا عن تجربة “برنامج الأم الدّاعمة” وكيف ساهم في تحسين علاقة الأمّهات بأطفالهنّ؟
برنامج “الأم الدّاعمة” في الجمعية هو إحدى المبادرات المهمة التي تهدف إلى تعزيز دور الأم في دعم دمج طفلها ذوي الهمم. من خلال هذا البرنامج، يتمّ توفير دورات تكوينية مستمرّة للأمهات، حيث تساهم الأم في الورشات التي تقام في الجمعية جنبا إلى جنب مع طفلها، وذلك تحت إشراف أخصّائيين نفسيين.
هذه الدورة لا تقتصر على التوجيه النظري، بل تشمل تفاعلا عمليا يساعد الأمهات في التعرّف على كيفية التعامل مع سلوكيات الطفل في المنزل. يتم ذلك من خلال حضور الأم مع طفلها في الورشة، حيث يحصلون على إرشادات متواصلة تتعلّق بالأنشطة التي تساعد في تحفيز الطفل، مثل كيفية مسك القلم، التلوين، وتحديد الأشكال.
إضافة إلى ذلك، يتلقى الأهل إرشادات عملية حول كيفية التعامل مع التحدّيات التي يواجهها الطفل في المنزل، وكيفية تطبيق هذه التوجيهات بطرق بسيطة يمكن للأم تنفيذها باستخدام أدوات وألعاب موجودة في البيت.
التفاعل المباشر بين الأم والطفل خلال الورشات كشف للكثير من الأمهات قدرات وإمكانات مدهشة لدى أطفالهنّ لم تكن ظاهرة من قبل. هذه التجربة مكّنت الأمهات من التعرّف على نقاط قوّة أبنائهنّ واكتشاف مهارات لم يتوقعنها، ممّا عزّز الثقة والتواصل العاطفي بين الطرفين.
في البداية، كانت الجمعية تقدّم هذه الدورات عبر تقنيات “الداتاشو” في المركز الإسلامي الثقافي، لكنها لاحظت أنّ استجابة الأمهات كانت ضعيفة، لذا انتقلنا إلى النموذج التفاعلي المباشر في الجمعية. هذا التغيير أسهم في تحقيق نتائج أفضل وزيادة فهم الأمهات للكيفية التي يجب أن يتعاملن بها مع أطفالهنّ.
نتائج البرنامج كانت ملحوظة، حيث استفادت 160 أم من هذا البرنامج، ما ساعدهنّ على اكتساب المهارات اللازمة لدعم أطفالهنّ بشكل فعّال، والتفاعل مع حالاتهم بطرق عملية ملموسة. لذلك، بناء على طلب الأمهات، تمّ تمديد مدّة البرنامج إلى شهرين، جوان وجويلية.
النتائج التي تحقّقت من برنامج “الأم الدّاعمة” كانت مثمرة على مستويات متعدّدة. أولا، أصبح الطفل يستجيب بشكل إيجابي للبرامج ليس فقط في الجمعية بل أيضا في بيته. هذه الاستجابة تأتي كنتيجة للتفاعل المستمرّ بين الطفل والأم والمختصّ النفسي في ورش العمل.
ثانيا المختصّ النفسي في هذا البرنامج يحصل على صورة متكاملة عن الحالة النفسية للطفل بوجود الأم، ممّا يتيح للمختصّ فهم السلوكيات التي قد تكون غائبة عن جلسات العلاج الفردية. بوجود الأم، يتمكّن المختصّ من مناقشة كلّ التفاصيل المتعلّقة بسلوكيات الطفل وحالته النفسية بشكل مباشر، ما يقوّي من فعّالية التوجيهات التي يحصل عليها الطفل والأم.
من جهة أخرى، تجد الأم إجابات مباشرة من المختصّ على الأسئلة التي كانت قد تراكمت لديها بخصوص اضطرابات طفلها، وهو أمر لم يكن يحدث في المحاضرات العلمية. هذه اللقاءات توفر حلولا عملية وسريعة للأمهات حول كيفية التعامل مع مشاكل أطفالهنّ، ما يمنحهنّ أدوات أكثر فاعلية.
وممّا لاحظته وحدّثوني عنه، أنّه في بعض العيادات النفسية يتم فصل الطفل عن أمّه، ممّا يشكّل له تأثيرا سلبيا، ويجعله يعاني من الارتباك والقلق، ويبدأ في الصراخ نتيجة لفقدان الأمان الذي يشعر به مع والدته. كما أنّ التفاعل بين الأم والطفل أثناء الجلسات يوفر للطفل الثقة في المختصّ وفي المكان الجديد. هذا التفاعل يساهم في بناء علاقة إيجابية بين الطفل والمختصّ ويجعل الطفل يشعر بالطمأنينة.
من البرامج اللاّفتة هو القسم الافتراضي الذي تحدّثتم عنه، كيف يسهم هذا البرنامج في تحضير الأطفال للدمج المدرسي؟
القسم الافتراضي يحاكي بيئة المدرسة ويعد الأطفال نفسيا، من خلال التخلّص من السلوكيات السلبية، مثل فرط الحركة وعدم التواصل، ويهيّئهم للاندماج في الأقسام العادية، فهو قسم يتسم بجوّ مشابه للقسم المدرسي، حيث يتمّ استخدام المئزر والسبورة والوسائل الموجودة في المؤسّسات التربوية، وذلك لتهيئة الأطفال ليكونوا مستعدّين نفسيا واجتماعيا عند التحاقهم بالأقسام الدراسية العادية.
ومن أمثلة نجاح البرنامج، الطفل منير قويدري الذي يدرس حاليا بابتدائية الزعفران عطية. كان منير يعاني من مشاكل كبيرة في التواصل، بما في ذلك فرط الحركة وغياب التواصل البصري واللغوي، فضلا عن سلوكيات غير منضبطة.
بعد عام ونصف من التحاقه بالجمعية، تخلّص من معظم هذه المشاكل وأصبح مؤهّلا للدمج في المدرسة. تم دمجه في القسم التحضيري أولا، ثم انتقل إلى السنة الأولى ابتدائي وحصل على علامة 9 من 10، وهو الآن في السنة الثالثة ابتدائي ويدرس جميع المواد مع زملائه بشكل طبيعي. في البداية كان يذهب إلى المدرسة مع أحد أوليائه، ولكنّه في السنة الثانية كوّن صداقات مع زملائه وأصبح يذهب بمفرده.
إضافة إلى ذلك، يقدّم أطفال الجمعية عروضا مسرحية هادفة، آخرها مسرحية لدعم القضية الفلسطينية، عبّروا فيها عن تضامنهم واستنكارهم للاعتداءات الوحشية، ما يجعلنا فخورين بوعيهم ومبادراتهم.
ماذا قدّمت الجمعية للمعلّمين لتحسين تكفّلهم بالأطفال المدمجين؟
قمنا بإعداد استبيان لدراسة البيئة المدرسية ومدى توافقها مع احتياجات الأطفال ذوي الهمم. وأسفر الاستبيان عن أنّ المعلّمين بحاجة إلى مزيد من التوعية حول كيفية اكتشاف هذه الحالات وفهم احتياجاتها بشكل أفضل، بهدف تمكين هؤلاء الأطفال من الاندماج بشكل طبيعي مع زملائهم في الصفّ.
من أجل ذلك، نظّمت الجمعية دورة تكوينية للمعلّمين بالتنسيق مع مديرية التربية، استفاد منها حوالي 200 معلّم. وقد قمنا بتقسيم الولاية إلى خمس مقاطعات هي: الجلفة، الإدريسية، حاسي بحبح، عين الإبل، ودار الشيوخ.
ركّزنا في الدورة على تعريف المعلّمين باضطراب التوحّد، سمات الطفل التوحّدي، التحدّيات التي يواجهها في المدرسة، والمعايير اللازمة لإنجاح الدمج المدرسي. وقد حقّقت الدورة نجاحا كبيرا في توعية المعلّمين حول كيفية التعامل مع حالات الأطفال ذوي الهمم في المدارس، واستحسنها المعلّمون والمفتشون وطلبوا منا إعادتها، غير أنّ إمكانات الجمعية المادية المحدودة تمنعها من تكرار الدورة. لذلك فكرنا في إعداد دليل المعلّم كحلّ بديل. خلال اجتماعنا مع مدير التربية السابق، تم اقتراح مناقشة هذا الدليل مع المفتشين.
دليل المعلّم سيحتوي على طباعة كلّ ما تمّ شرحه في الدورة التكوينية بحيث يتمكّن المعلم من استخدامه كمنهج عملي. من خلاله، يقوم المعلّم بوضع خطط استراتيجية للتعامل مع الحالات المدمجة في الفصل، ممّا يساعده على وضع خطة عمل للتعامل مع كلّ حالة.
ما هي مشاريع الجمعية المستقبلية التي تسعى إلى تحقيقها لتطوير التكفّل بالأطفال ذوي الهمم؟
تخطّط الجمعية لإدماج الأطفال ذوي الهمم في إنشاء مؤسّسات مصغّرة لتطوير مهاراتهم العملية واستقلاليتهم المستقبلية.
لكن قبل ذلك، سأحدثك عن مشروع محو الأمية، حيث كانت رؤيتي لفئة الشباب بمثابة رهان مهم في تطوير دور الجمعية وتأثيرها. هذه الفئة تواجه تحدّيات خاصّة بعد التعليم الأساسي، ولذلك كان من الضروري إيجاد حلول عملية لدعمهم في مسارهم التعليمي والمهني. وكانت تجربتي الأولى في بلدية القديد مع برنامج محو الأمية خطوة مهمة في هذا الاتجاه، حيث بدأت بالتعاون مع معلّمة متطوّعة لتوفير التعليم المستمرّ لهؤلاء الشباب.
ثم توجّهت إلى ملحقة محو الأمية، حيث التقيت بالسيد تاوتي محمد، مدير الملحقة، وناقشت معه الوضعيات الخاصة بهؤلاء الشباب. بعد أن لاحظ إصراري ودفاعي عنهم، قرر أن يبرمج زيارة ميدانية لفهم ظروفهم عن كثب. وبعدما زارهم مع طاقم من الإداريين والمفتشين، اكتشف أنّ هؤلاء الشباب بحاجة ماسّة إلى دعم تعليمي متخصّص، ووافق على طلبي بتخصيص معلمة لمتابعة برنامج محو الأمية بشكل رسمي.
تمكّنت من دمج 20 فردا في برنامج محو الأمية، وكانت خطوة رائعة نحو تطوير قدرات هذه الفئة، خاصّة بعد تسجيل أربعة منهم في التعليم والتكوين عن بعد، ممّا سمح لهم بالحصول على شهادات إثبات المستوى والنجاح بمعدلات جيّدة، وهو إنجاز مهم بالنسبة لهم.
ثم تمّ التعاون مع ولاية الأغواط عبر اتفاقية فتح فرع منتدب مع التكوين الجهوي لذوي الاحتياجات الخاصّة. بموجب هذه الاتفاقية، حصلت الجمعية على الفرع في ولاية الجلفة، ممّا يمثل نقلة نوعية في توفير فرص التدريب المتخصّصة للشباب من ذوي الهمم.
وفي هذا السياق، تم إطلاق برنامج الزخرفة على الزجاج كأوّل تخصّص، حيث يشارك فيه الآن 14 متدربا من الذكور والإناث، الذين سيحصلون على دبلوم في هذا المجال. تلت ذلك إضافة تخصّصات أخرى مثل الحلويات والرسم على القماش، وغيرها.
من خلال هذه المبادرات، تحقّق الجمعية تقدّما ملموسا نحو تمكين الشباب ذوي الاحتياجات الخاصّة وتزويدهم بمهارات عملية تساعدهم على الاندماج في سوق العمل، عبر إنشاء مؤسّسات مصغّرة، حيث يمكنهم بدء مشاريع خاصّة في مجالات مختلفة، ممّا سيعزّز استقلالهم المالي ويسهم في إدماجهم في سوق العمل.
وقد أبدى مدير وكالة القرض المصغّر “ أونجام” بالجلفة، استعداده لدعمهم بفتح أبواب التمويل لكلّ التخصّصات باستثناء ما يشكّل خطرا، وهو ما يعكس التزاما حقيقيا من الدولة في دعم هؤلاء الشباب لتحقيق طموحاتهم.
كما أنّ التغيير في نظرة الآباء والأمهات إلى أبنائهم هو عامل أساسي في نجاح هذه المبادرة، حيث أبدوا اليوم شجاعة وثقة أكبر في مستقبل أبنائهم. ذلك التغيير الجذري في التفكير والموقف من القلق إلى الأمل والإيمان بالقدرات، يعدّ بمثابة دعم معنوي مهم في تحقيق النجاح. وهذا كلّه يعني أنّهم ليسوا عبئا على المجتمع بل مساهمين في تحسينه، من خلال الاستقلالية والعمل الشريف.