تسبّب الضغط المتزايد لجائحة فيروس كورونا كوفيد-19 بمتحوراته إلى تداعيات نفسية وعصبية خطيرة على صحة الجزائريين، ما يستدعي ضرورة الاهتمام بالصحة النفسية للمواطنين في مثل هذه الظروف العصيبة، من خلال اتخاذ كل الإجراءات اللازمة للحفاظ على الصحة النفسية للعائلات المتأثرة بالفيروس، التي تمكّنت المخاوف من انتقال الفيروس في التأثير على التماسك الاجتماعي والنفسي، حيث حذّر أطباء وعلماء نفسانيون من آثار «عميقة» للوباء على الصحة النفسية للمصابين بالفيروس أو أقاربهم، في الوقت الحاضر ومستقبلا، هذا ما فصلت فيه البروفيسور بركو مزوز مديرة مخبر التطبيقات النفسية في الوسط العقابي بكلية العلوم الإنسانية والإجتماعية بجامعة باتنة 1 في حوار لـ»الشعب ويكاند».
- «الشعب ويكاند»: كيف يؤثر فيروس كورونا المستجد على الصحة النفسية للجزائريين؟
د/ بركو مزوز: إن فيروس كورونا بكل أنواعه شكّل هلعا عالميا، لأن تواجده في بادئ الأمر كان مرتبطا بالموت الحتمي نتيجة عدم معرفة طبيعة الفيروس ولا طرق انتقاله ولا الوسائل العلمية لمعالجته أو الآليات الوقائية من الإصابة به، فشكّل الفزع والخوف والقلق مظاهر نفسية مرتبطة بظهور الوباء لدى أي شخص وفي أي مكان. فالمجتمع الجزائري كغيره من المجتمعات تأثر تأثرا كبيرا بظهور الوباء وبانتشاره السريع، فوجد المواطن نفسه في مواجهة الوباء، عاش معه حالة من الفزع والتوتّر جراء الخوف منه ومن العدوى، فكانت استجابته في بادئ الأمر متواترة بين مصدق مقتنع، ورافض مستهتر لفكرة المرض في حدّ ذاتها، إلى أن تداعت الإحصائيات وارتفعت الأرقام معلنة وبائية المرض في كل بقعة وبكل عائلة تقريبا، فشهدنا الوفيات واكتظاظ المؤسسات الاستشفائية ووصولها الى مرحلة التشبّع الذي لم يسمح حتى بالتكفل بالحالات التي تمّ علاجها إما بالمنزل وإما توفاها الله قبل أن تشهد العلاج، لتظهر الاضطرابات النفسية كالقلق المزمن، الخوف الهستيري المرضي، العزلة الاجتماعية، الهشاشة النفسية، الاضطرابات العاطفية والانفعالية والاكتئاب النفسي.
ومعظم هذه الأمراض عمل فيروس كورونا على تواجدها على الساحة النفسية للأفراد بطريقة مباشرة وغير مباشرة حين تداخلت العوامل وتشابكت لتخرج جملة من الاضطرابات النفسية التي لم يستطع الفرد تجاوزها في ظلّ تنامي وبائية الظاهرة من جهة، ومن جهة أخرى ما خلّفه الحجر الصحي من اجبارية الالتزام بالتعليمات الاحترازية التي تتطلّب العزلة والتباعد الجسدي، وتغيير نمط الحياة الاجتماعية الذي كان مقرونا بالزيارات ومختلف أنواع التفاعل التي أضحت من الممنوعات، ولم يتقلص الخوف والفزع بل زادت الاضطرابات النفسية ونشأت في ظلّ تنامي الجائحة وتطوّرها وأخذها لمفهوم الموجة «الفا، بيطا، دلتا « التي أضحت في كل نوع موجة تشكل خطرا حقيقيا على الانسان وبالتالي مزيدا من الهلع في مواجهة هذه الموجات المتداعية التي تحصد الأرواح بالمئات والآلاف ووصلت إلى الملايين.
- ما هي الفئات الأكثر عرضة للخطر النفسي جراء الوباء؟
الفئات الأكثر عرضة للخطر النفسي طبعا هي الفئات الهشّة سواء هشاشة عضوية أو هشاشة نفسية أو هشاشة اجتماعية. وبالتالي تحتاج إلى حرص في التزام الوقاية وانتهاج التدابير الاحترازية.
- ما هي الآثار العصبية والنفسية الطويلة الأمد لفيروس كورونا؟
لا يتعلّق الأمر بالوباء في حدّ ذاته بقدر ما يتعلّق بقدرة الفرد على تجاوز آثاره، فطبيعة الجسم وقدرته على تجاوز أعراض كورونا والتزام العلاج المقترح يضاف إليها المساندة الاجتماعية والأسرية يعد بمثابة اللبنة الأساسية لاجتياز الوباء بسلام، لذا نجد الكثير من المختصين اذا ما تحدثوا عن الآثار طويلة الأمد التي يمكن للفرد الجزائري أن يعاني منها فإنهم يتحدثون بصورة علمية دقيقة عن المناعة النفسية العصبية التي تؤكد أن التوتر والقلق الزائد والاكتئاب وكل الامراض النفسية المكبوتة أو الظاهرة يمكن لها أن تضعف مناعة الإنسان لأن كثرة الشعور بهذه الاضطرابات وديمومتها يشكّل على جسم الانسان خطرا مباشرا في مواجهة الاجسام المضادة التي تضعف وتبدأ في الاختفاء من الجسم بفعل كيمياء المشاعر السلبية، وهنا يكون الجسم مرتعا لكل الأمراض الفتاكة ومنها هذا الوباء، وبالتالي وجب الاعتناء بالجانب النفسي واستصغار الوباء في حجمه الطبيعي حتى تكون الآثار مرحلية عابرة.
- هل يؤثر فيروس كورونا ويزيد من خطر الإصابة بأمراض نفسية أخرى؟
إن وبائية كورونا وقدرته على التحوّر داخل جسم الانسان يؤثر على صيرورة الحياة الاجتماعية بكل تفاصيلها، يؤثر بطريقة مباشرة وغير مباشرة في وبائية الاضطرابات النفسية وشيوعها لدى الافراد والجماعات على حدّ سواء لما له من قدرة على التخفي والهجوم، فبحسب الشخصيات النفسية وتنوّعها ستتنوع الاضطرابات النفسية، فنجد النرجسي لا يستطيع تقبل الوباء فيخفيه مما يزيد من حدة انتشار هذا الوباء في محيط هذا الشخص النرجسي، والشخصية المضادة للمجتمع يمكن أن تشكّل خطرا حقيقيا وبؤرة لانتشار الفيروس لأنها شخصية تتلذذ بإيقاع الأذى على الآخر، والشخصيات الهيستيرية تجعل من الوبائية ممكنة، وبالتالي سيتضاعف المرض النفسي جراء هذه الوبائية في كل أبعادها وبتعدّد مصادرها ومنابعها.
- ما هي آثار كورونا النفسية على المتعافين من الفيروس؟
يقف المصاب بالوباء أمام منعرج في حياته، وهنا يمكن أن يتأثر الشخص بتلك الأعراض التي مرّ بها، وتخلّف له ندوبا بالذاكرة لا يمكن محوها سريعا، فآثار المرض ومتاعبه، وتداعياته على جسده وأيضا قد يعاني من الاغتراب في أبشع صوره، خاصة المتعلق بغياب المساندة الاجتماعية التي يغيّبها فعل التباعد الاجتماعي (الجسدي) المفروض قانونا وبفعل تداعيات وباء كورونا على المجتمع أين يغيب عنصر التكافل وتنقص الزيارات المنزلية وحتى الاستشفائية وربما يغذيها أيضا انقطاع الاتصالات بكل وسائل التواصل الاجتماعي.
فالعائد من كورونا إلى الحياة يتماثل للشفاء من جهة ويعيد ترتيب أولوياته من جهة أخرى، خاصة تلك المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية في صورتها الإيجابية والسلبية على حدّ سواء، ومن الأمور التي يمكن أن يعاني منها المتعافي «وصمة المرض» التي تؤثر عليه وتخلف النبذ النفسي والاجتماعي للمريض وحتى لعائلته، وكذا الظواهر الوسواسية من معاودة المرض له من جديد أو الخوف والفزع من كل ما له علاقة بالمرض ومسبباته، وقد يعانون أيضا من اضطرابات النوم وسيرورات التفاعل الاجتماعي من جديد.
- الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي عامل إضافي «سلبي» في نشر الذعر في المجتمع؟
إن الإعلام وكذا وسائط التواصل الاجتماعي هوّلوا من الأمر ونشروا الفزع والذعر في الأوساط الاجتماعية المختلفة متناسين الطبيعة البشرية التي تنحو الى الذعر والخوف، فلم يكونوا يعملون على طمأنة الأفراد ولم يسعوا الى نشر أساليب الأمن واستراتيجيات الشعور بالأمان، بل كان فضاء خصبا لنشر كثير من الأخبار المغلوطة، والانباء غير الصحيحة، ووسائل التواصل الاجتماعي عبث بها أشباه «المثقفون» فلم تكن هناك استراتيجية إعلامية صحية لنشر الثقافة الصحية، ونشر مصادر المعلومات الموثوقة، فهذا الهزيج المتناقض الذي عجّ به الفضاء الاجتماعي الافتراضي أصبح مرتعا لمن هبّ ودب لنشر المعلومات صائبة كانت أم خاطئة، فلم يتمكن الفرد الجزائري أن يتموضع من الحقيقة المطلقة، وهو ما صعب في نهاية الأمر من الاستراتيجيات الوقائية عن طريق التلقيح، لأن الفضاء خلّف عقولا حملت تصورات خاطئة المصدر فأبانت عن الامتناع جراء تلك التصورات الخاطئة.
- هل توجد علاجات يمكن تلّقيها للتخفيف من آثار كورونا النفسية؟
أكيد أن هناك عدة تدخلات علاجية ذات منحى نفسي للتخفيف من آثار كورونا النفسية ولعل أهمها اتخاذ ما يلي: - توفير خلايا الدعم النفسي في كل المؤسسات الاستشفائية ودعم هذه الخلايا بالوسائل العلمية والتقنية الملائمة للتدخل على مستوى الوحدات من جهة وعلى مستوى الطب الوقائي من جهة أخرى، - الاستعانة بمختصين في علم النفس الوقائي وعلم الجوائح لفهم السيرورات المرضية لمريض كورونا والرافضين للعلاجات الوقائية لبناء برامج فعالة للتكفل النفسي والوصول بالمريض ورافض العلاج الى فكرة التقبل، فالعلاج النفسي الشبكي فعّال في مثل هذه المواقف لأن الجائحة لا تمسّ الفرد فقط وإنما بكل محيطه وبالتالي العلاج الشبكي هنا يصبح أكثر من ضرورة، - العلاجات النفسية ذات المنحى السلوك المعرفي التي تساهم في تعديل التصورات والتمثلات عن المرض وبناء منظومة ثقافية صحية تساعد على تقليص حجم وبؤرة الجائحة، - استحداث أساليب المساندة النفسية واقامة جو الاطمئنان لمرضى كوفيد في المؤسسات الاستشفائية والعيادات من خلال نشر الاخبار الإيجابية والصور الفاعلة من المحيط الأسري والاجتماعي يسرع من فعالية العلاج، ويدعّم المناعة النفسية للمريض ويبعث الطمأنينة لدى اسرته أيضا، - العلاج بالتفريغ الانفعالي والغمر العاطفي بالابتعاد عن جو الاحصائيات والتداعيات التي تخصّ الجائحة وبناء التفكير الإيجابي بنشر الثقافة النفسية والصحية السليمة.
- أبانت تداعيات الموجة الثالثة عن مشاكل وتعقيدات واضطرابات نفسية عاشها الجزائريون، أكدت عدم استعدادهم لمواجهة مثل هذه الأزمات الاستثنائية، إلى ماذا ترجعين ذلك؟
عاش المجتمع الجزائري كغيره من المجتمعات في العالم ويلات الألم ولوعة فراق الأحبة، وصدمات الفقد بصورة يومية ومفجعة، وتكيفوا مع الموجات الأولى والثانية للوباء، وأشدها وطأ عليهم كانت الموجة الثالثة (دلتا) التي أخذت الأرقام فيها منحى تصاعديا وصل الى 1900 حالة و45 وفاة في اليوم، وهي أرقام قياسية لم تشهدها البلاد من قبل، ما ضاعف من حالات القلق والفزع لدى المواطنين وعجل بظهور اضطرابات نفسية أكثر حدة لعلّ أهمها الوصول الى مرحلة الاحتراق النفسي الذي تمظهر في حالات العجز على مسايرة التكيف في الحياة الاجتماعية وصيرورتها ما جعل الفرد الجزائري غير قادر على مواجهة الموجة الثالثة.
- ماذا تقترحين للخروج من هذه المرحلة الحرجة بأقل الأضرار النفسية، وماهي الأمور التي تساعد على تحسّن حال الصحة النفسية للمصابين؟
لابد من الإشارة الى الكيفية التي يجب أن نتعامل معها أثناء الإصابة بالمرض لأنها هي المؤشر الأول الذي يعتمد عليه لبناء نفسية ناضجة وقادرة على التحمّل ومواجهة أعراض المرض بشجاعة، فالمرض كغيره من الأمراض يحتاج إلى نفس مطمئنة واثقة بالله «إن لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا»، فالهلع مرفوض في مثل هذا الوضع سواء من المريض أو من محيطه الأسري، إذ يجب أن يتعامل الجميع من منطلق انه مرض يحتاج الى رباطة جأش وقوة تحمل وتصورات إيجابية وثقة أكبر في الله، وهنا يمكن أن يكون مثل هذا التفكير الإيجابي دعامة أساسية للمناعة النفسية للإنسان، وأحداث مساحة من الاطمئنان والسكينة تجعل المريض أكثر هدوءًا وأقل اضطرابا وبالتالي ستعمل الاجسام المضادة عملها في بيئة ساكنة تمكنها من هزم الفيروس في الجسم.
إن عدم التعرّض للصدمات أثناء الجائحة أيضا يعد من الأمور الهامة لاستمرارية عمل المناعة بشكل جيد في ضوء البروتوكول العلاجي والمساندة الأسرية والاجتماعية على حدّ سواء، لذا وجب على فريق العمل الذي وجب أن يكون متعدّد التخصّصات لمساعدة المريض على تجاوز مرحلة الخطر والتشافي بأسرع طريقة بعيدا عن المنغصات وعن أجواء لاصحية التي يمكن أن يشهدها المريض بمحيط المشفى.
- تؤدي طمأنة المواطنين دورا في الحفاظ على السلامة النفسية من خلال المرافقة خلال الجائحة، خاصة عند الذروة وبعدها وهو ما لم يلمسه المرضى في المستشفيات أو في المنازل أو حتى العاديين. هل يعتبر هذا إخفاقا أو سوء تقدير في متابعة الوضع الصحي للجائحة؟
كان تركيز السلطات الصحية في التكفل بالجائحة كمي المنحى بالدرجة الأولى، فالرقم دائما عند السلطة الصحية مهم وتقديري في معالجة كثير من الأمور وفق تصورات المشرعين في السلطة والمنفذين أيضا، فمثلا الحجر الصحي مرتبط ارتباطا وثيقا بتناقص أو تصاعد الأرقام، والاحصائيات التي تتعلق بموتى كوفيد أو نسبة الوبائية في الوسط الاجتماعي، وعملت من جهة على تسريع وتيرة الإجراءات الصحية واتخاذ إجراءات عقابية للمخالفين لهذه الإجراءات وهو من الأمور الإيجابية التي ساهمت في عدم وبائية الجائحة بشكل خطير حتى في عز ذروة الموجة، في حين غاب عمل المتابعة في بعده الكيفي الإنساني من خلال نشر المعلومات الطبية الجادة عن الجائحة، أو إقامة فضاءات للنقاش العلمي المبني على أسس علمية عالمية واستضافة كبار العلماء في الجوائح لتقريب الرؤية الصحيحة من المواطنين، وعدم العمل برؤى استشرافية مخطط لها وجعل ذلك مقتصر مناسباتيا على مواعيد صحية أو اجتماعية.