الدكتور يونس بوناقة لـ «الشعب ويكاند»:

لهـذه الأسبــاب تــردّى مستــوى التّعليم العالـي عندنــا

حوار: فاطمة الوحش

في حواره مع «الشعب ويكاند» تطرق الدكتور يونس بوناقة إلى أزمة انسلاخ فن النقد الأدبي من دوره التوعوي الفني، والتقييمي التقويمي إلى دور الازدراء والتقزيم والإقصاء لكثير من الكتابات الفتية، وبهذا يصبح فعل النقد غير مقترن بالقراءة الناقدة التي تثمن العمل مهما كانت نسبة سلامته ضئيلة، بحكم أن فن النقد ينحو منحى التقييم فالتقويم للعمل الفني المطروح على الناقد، وهذا لا يعني أن الباحث ينافح عن فكرة نشر الأدب المبتذل الركيك، بل بالعكس من ذلك، ولكن يدعو إلى فكرة عدم إقصاء كل الأعمال الإبداعية الأدبية الشابة، وعدم جعلها في كفّة واحدة مع الأعمال الركيكة. الدكتور يونس بوناقة، أستاذ بجامعة الشلف، متخصص في الدّراسات البلاغيّة والأسلوبيّة، وكاتب فتّي يشتغل على الكتابة الإبداعية والنقدية معا.

الشعب ويكاند: هل أسهمت البيئة المحلية في صقل ملكة الكتابة فيك؟
يوسف بوناقة: عهدنا فنّ الكتابة نظير الشّجرة السّخيّة، جذورها ثابتة وفروعها في سماء الإبداع، وارفة الظّلال، ذات بذل سخيّ تؤتي ثمرها لكلّ من أولاها اهتماما، ولشجرة بهذا الحال حقّ لنا عنايتها، وبعد، نجني ثمر كدّنا. وصحيح أنّ الكتابة النّقديّة والإبداعيّة معا تستهويني بسحرها، وتأسرني بتآخيذ فنها، وتشدّني بفيوضة فتنتها، ولقد كان للبيئة التي أعيش فيها أثرها البالغ في توجهي إلى فنّ الكتابة، ولا مراء أن الذي شبّ في حجر الحرمان لكثير من وسائط تلقّي الثّقافة والعلم سيسعى إلى اكتساب شخصيّة قويّة تعيد له ما فقد، وهذا الذي يكون سببا ركيزا في توجّه الأدباء إلى خوض غمار فنّ الكتابة، وطبيعيّ أن تكون الحاجة أم الابتكار، والمعدن الأصيل للإبداع، فحقيق، إذن، أن الأديب ابن بيئته، ويكون للبيئة بالغ الأثر في صقل موهبة كلّ أديب يدرك موالج الحرف البهيّة فيجعلها سراجا له في فعل الكتابة، فيقبل بها على متلقّيه إقبالا مشفوعا له بالتّميّز، تأنسه الأسماع، وتطرب به آذان القلوب، وعليه فقد عمدت إلى قولبة شخصيتي وفق تكوين ذاتيّ لتنمية شخصيتي الأدبيّة والإبداعيّة تكوينا بعيدا عن التّلقين الحرفيّ، ولعلّ هذا ما جعلني أطوّر من شخصيتي البحثيّة تحت دافع تحقيق القدر الواسع من المطالعة الحرّة اللاّمقيّدة، وبالتّالي تحقيق المنفعة لغيري من القرّاء والباحثين.
-  إلى ما يعزى اهتمامك بفنّ النّقد، وقد لاحظنا تأثّرك الكبير به، وهل هناك من النّقاد من أثروا في بلورة ملكتك النّقديّة؟
لا جرم أن لكلّ باحث ميولاته الخاصّة التي تسكن شخصه، ويسكن بها، وإنّ لكلّ باحث في ميدان اللّغة والأدب العربيّ فنونا يميل إليها دون سواها، ولا غرو في أنّني كنت ميّالا إلى فنّ النّقد؛ هذا العالم الفسيح الرّحب، وهذا الرّكن المزدان بالجمال والإبداع من أركان بيت الأدب الآسر، واليوم وقد كثرت عليه الأيدي، وتداعته الأفواه، واضطربت فيه الأقلام، وتسارعت إليه همم المتناقدين، حتّى رمى به كلّ ذلك إلى تضعضع لغته، وسار به المآل إلى التّيه، فبات القارئ يعافر ما يقرؤه من معارف معافرة عظيم الجسد لكلّ قزم، ويكأنه يفقده، فكيف به إذن أن يعافره؟ وكلّما ذكر أمامي مصطلح النّقد إلاّ واستحضرت مقولة النّاقد أ.د عبد الملك مرتاض في فنّ النّقد «أنّه متى ما استطاع أن ينجو من فخّ الثّرثرة، ودون أن يتورّط في السّفسطة، دون أن يقع في الانطباعيّة المتلبّدة، وأن يتّسم بالموضوعيّة، وإن استطاع أن ينأى عن الذّاتيّة التي قد تجعل منه مجرّد أحكام متحيّزة، وإن استطاع، أثناء كلّ ذلك، أن يكون شاشة مضاءة، ومضيئة في الوقت ذاته، (...) فذلك هو النّقد». وما لحقت بركب كتابات جهابذة النّقاد إلاّ بغية استظهار ما هو مطمور في تضاعيف كثير من التّآليف الإبداعيّة منظومها ونثرها، والوقوف على الأبعاد التّعليميّة الأسلوبيّة في ثناياها، وإنّنا لا ننكر، ألبتّة، أنّ لدينا نقادا لهم بالغ النّفع في فنّ النّقد الأدبيّ، وهم ماهم من القراءة النّقديّة التّامّة، وملمّين بجلّ مدارس النّقد الأدبيّ من تراثنا العربيّ إلى المذاهب النّقديّة الغربيّة المعاصرة، ومن خلال فعل القراءة الذي يمثّل عمليّة نقل للمعارف، ومن تلكم الأقلام النّقديّة التي تراها قد أنارت بصيرتي النّقديّة: الجاحظ، ومصطفى صادق الرّافعيّ، وطه حسين، وعبد الملك مرتاض، عبد السّلام المسدي، ومحمد العمري، وشكري المبخوت، وحسين الواد ..
- كيف تقيّم مستوى النّقد الأدبيّ اليوم؟ وهل واكب فعلا حركة الكتابة التي تشهد غزارة وحضورا كبيرا؟
إنّ الحقيقة المطلقة التي لا يجب أن نطمرها في غياهب الإغفال، أو أن ندسّها عن الباحثين فيمسّها الإهمال، أنّ النّقد الأدبيّ فنّ شريف عفيف، والفنّ النّزيه لا يجب بأيّ حال من الأحوال أن تعيث به فسادا أقلام بعض المتناقدين، ونحن نعلم يقينا أنّ النّقد إنّما هو فعل تنظيريّ للإبداع، وليس تهجّما على الإبداع، وإذا كان البعض قد انبرى للمنافحة عن حال الأدب العربيّ في شكله العام، والنّقد الأدبيّ بخاصّة، وما اغتدى مصوّرا عليه من ضعضعة اللّغة، وانسلاخه من دوره التّقويميّ التّقييميّ إلى غاية هي في الحقيقة تنفث الشّر بحمله نفثا في الأجيال القادمة، وهي غاية الازدراء على الكتابات النّاشئة، وآية هؤلاء الثّلّة من المتناقدين في ذلك انصراف طائفة من الكتاب المبتدئين النّاشئين إلى خوض غمار الكتابة الإبداعيّة على غرار كتابتهم في فنّ الرّواية، فألبسوا هذا الفنّ العجيب البديع الآسر لباسا غير الذي كان مزدانا به، وجعلوا منه مطيّة هيّنة لإظهار تجاربهم في الحياة بحلوها ومرّها، وهم يتغاضون عن أسس وفنيّات فنّ الرّواية، وهي أساس وجوده، على غرار الفكرة التي هي مدار الرّواية، واللّغة السّرديّة، وجماليّات توظيف الخيال السّرديّ، وإلاّ ما كان يجب أن نوسم كلّ كتابة سرديّة فنّا روائيّا، ولكن الحقيقة المطلقة أنّه لا يجب أن نقصي كلّ عمل إبداعيّ حديث الميلاد، ونضعه بين مطرقة الاستقواء وسندان التّعيّير، وقتها لن نشهد قفزة نوعيّة في الأدب العربيّ المعاصر، ولكن يجب على النّقاد أن يكونوا قرّاء بالدّرجة الأولى، ومتابعين للعمل الإبداعيّ المقروء بالتّقويم، وقتها فقط يكن الإبداع ونقده يخدمان الأدب ويرفعانه.
-  كيف يرى يونس واقع الجامعة الجزائريّة، ومستوى البحث العلميّ؟
سعت كثير من السّواعد المناهضة بسبيل الرّفعة من مكانة العلم والبحث العلميّ اليوم، والمحبّة أيضا لرقيّ الوطن وتحقيق نهضة رائجة له في مجال التّعليم العاليّ قدر المستطاع، ولكن رغم كلّ هذه الجهود المضنية ما يزال التّعليم العاليّ والبحث العلميّ في الجزائر يراوح مكانه، إذا لم نقل أنّه اغتدى يتراجع بخطى ثابته للقهقرى، وما ذلك إلاّ بسبب تفشّي عدد من الظّواهر السّلبيّة في الوسط الجامعيّ، وهي ظواهر دخيلة عليه، وهذا ما أسهم بشكل كبير في تردّي مستوى التّعليم العالي والبحث العلميّ في الجزائر، وأسهم أيضا بشكل مباشر في شيوع ثقافة التّجهيل والعمى الفكريّ بين أوساط الباحثين، ويعود كلّ هذا إلى جملة من الذّرائع والأسباب أبرزها عزوف كثير من الطّلبة عن حضور المحاضرات وحصص التّطبيق والتّوجيه، وكذا انصهار المسافة الفاصلة بين الأستاذ والطّلاب هو ما أصبح هاجسا للأستاذ في حصص التّدريس داخل القاعة بسبب عدم السّير الحسن للدّرس بسبب التّسيّب المقصود من الأستاذ، وحتّى أنّه أصبح الطّالب هو الذي يحدّد علامته في امتحان التّطبيق، فكلّ هذا وغيره جعل من التّعليم العالي يعيش رجعيّة غير مسبوقة، ولابدّ من تدارك كثير من النّقائص وتعديل كثير من المثالب إذا أردنا النّهوض بالتّعليم العالي والبحث العلميّ في الجزائر.
- كيف يفسّر يونس هجرة القرّاء من الكتاب الورقيّ وميلهم إلى تصفّح المكتبات الالكترونيّة؟
إنّ الثّورة الهائلة التي أحدثتها المكتبات الالكترونيّة في يومنا هذا تكاد تكون غير مسبوقة البتّة، وآية ذلك ميول السّواد الأعظم من الباحثين إلى استخدام الكتب المصوّرة ونأيهم الصّارخ عن استخدام الكتب الورقيّة، ونحن نعلم بأنّ فعل القراءة فعل تعلميّ توعويّ استطلاعيّ استكشافيّ محض، ولا يمكن أن يكون الكتاب الورقيّ الوسيلة الأوحد لفعل القراءة والمطالعة، فحتّى أنّ المكتبات الالكترونيّة المحمّلة في ذاكرة الهاتف الذّكيّ أو الحاسوب اغتدت من الوسائل الاستطلاعيّة الاستكشافيّة المسهمة في نشر الثّقافة والعلم، وذلك من خلال الكتاب الالكترونيّ، بيد أنّنا نجد القرّاء على كثرتهم منشطرين إلى قرّاء الكتب الورقيّة، وكذا قرّاء للكتاب الالكترونيّ، وعلّة ميول أكثر القراء اليوم إلى الكتاب الالكترونيّ كونه سهل الاستعمال، ولا يكلّف ماديّا كما هو شأن الكتاب الورقيّ، وأيضا من ناحيّة الحجم فالكتب الالكترونيّة يكفي الباحث أن يخصّص لها ملفّات متفرّقة في حاسوبه أو هاتفه الذّكيّ، ولكن بالرّغم من كلّ محاسن الثّورة الكبيرة التي أحدثتها المكتبات الالكترونيّة يبقى للكتاب الورقيّ مكانته السّامقة بين الباحثين.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024