تمضي السنون وتبقى الأعمال النضالية والمواقف البطولية المشرّفة خالدة، لا يمكن محوها من الذاكرة الوطنية، تروي للأجيال مآثر السّلف الصالح. تعود ذكرى مجازر 17 أكتوبر 1961 التي ارتكبها البوليس الفرنسي في حق المدنيين من أبناء الجالية الجزائرية المقيمة بفرنسا ليتجدد العهد مع الوطن.
تبقى تلك المظاهرات السّلمية ذات الكلفة العالية عنوانا بارزا في تاريخ ثورة التحرير ونضال الشعب الجزائري. لقد انتفض المهاجرون الجزائريون كرجل واحد لكسر قرار حظر التجوال المفروض بقرار عنصري سلطته الإدارة الفرنسية، بتحريض من المتطرفين فيها من أجل التحرش بالجزائريين والزج بهم في دوّامة تمّ التخطيط لها بشكل دقيق.
لقد تحوّلت فرنسا إلى ساحة حرب مفتوحة جرت فيها فصول أخرى من معركة التحرير، حيث بسطت جبهة التحرير سلطتها في الميدان من خلال تجنيد الجزائريين للمشاركة في الثورة بكافة الطرق من دفع منتظم للاشتراكات والقيام بأعمال حربية تركت أثرها في المستعمر ومطاردة للمناوئين والعملاء الخطيرين لها.
ووجدت رسالة ثورة التحرير صداها العميق في مختلف أوساط الجزائريين، وحتى المحبين للحرية والمدافعين عن القيم مثل وسائل الإعلام العالمية بباريس والأجانب هناك من مختلف جهات العالم اكتشفوا ما يعانيه شعب يقبع تحت جبروت استعمار فرنسي سعى قادته عبثا لإزالة عقدة هزيمتهم في فيتنام بالانتقام من الجزائريين.
ملحمة 17 أكتوبر جديرة بأن تخلد بجميع الوسائل من تاريخ للأحداث، ونقل للشهادات وجمع للأرشيف، وإقامة نصب تذكارية لحماية الذاكرة من محاولات التشويش التي تقودها أوساط فرنسية ممن يخشون التاريخ.
حقيقة تمّت بعض العمليات في هذا الإطار تفتح المجال أمام إعلان اعتراف صريح بالجريمة والتنديد بها، لكن لا يزال الكثير ينتظر القيام به إحقاقا للحق واحتراما لأرواح من ألقي بهم في نهر السين، ومن اغتيلوا في شوارع عاصمة الجن والملائكة، ومن تعرّضوا للتعذيب والتنكيل في مقرات البوليس الفرنسي.
هذا التاريخ يبقى وصمة عار في جبينهم، ولن يتمكّنوا من التخلص منه سوى بقول الحقيقة التي تعتبر حلقة في مسار بناء مستقبل يرتكز على قواعد عادلة ومنصفة لا مجال فيها لنزعة الهيمنة أو الانتقام.
كيف لمجتمع يصنف رائدا في مجال الحريات والقانون أن يقبل بتداول أسماء من أمثال السفاح أوساريس وباوبن وغيرهما من قادة البوليس والمخبرين الذين تلطخت أيديهم بدماء الجزائريين الأبرياء رجالا ونساء وحتى أطفال.
المناسبة بقدر ما تذكّر بالمأساة وآلامها بقدر ما تعد أيضا مبعثا للفخر والاعتزاز بمن شاركوا في ملحمة مقاومة الاحتلال في عقر داره وفضحه أمام العامل برمته ونالت بذلك الجالية الجزائرية بالمهجر شرف ما بعده شرف تتوارثه الأجيال.
وبالفعل فإنّ أجيال اليوم في البلد الأم كما في المهجر أمام مسؤولية لا تقل عن تلك التي تحملها الباء والأجداد من أجل إدراك مدى التحديات التي تواجهها البلاد من اجل إبعاد أي خطر محتمل قد يهدد السيادة الوطنية. ويتعلق الأمر بالتقاط نداء الوطن للعمل بكل قوة من أجل المساهمة في تنمية القدرات المالية والاقتصادية من خلال العمل والجد، واكتساب العلوم وابتكار الحلول لمعضلات اقتصادية واستثمارية.