الديبلوماسية الجزائرية تقاس حقا بالرجال الأكفاء الذين أفنوا جزءا من أعمارهم في خدمتها من أجل أن ترتقي بلادنا إلى المكانة المرجوة واحتلال المواقع الجديرة بها على الصعيد الدولي باتجاه استصدار قرارات تحمل طابع العدالة والمساواة سياسيا واقتصاديا.
هذا الأداء الديبلوماسي المبني على الذكاء والاحترافية خاصة، ليس قائما على نظريات استراتيجية لمحترفي هذا المهنة بل سار وفق الرؤية الواقعية التي تراعي مايجري حولك في هذا العالم من أحداث وبؤر للتوتر لايمكن لأحد أن يتقدم إليها مالم يحظ بتلك الثقة كل الثقة زيادة على أن البلد ضمن المجموعة الأممية.
ولا يمكننا هنا فصل السياقات العالمية عن الديبلوماسية الجزائرية ودورة النشاط، والحضور القوي وصعود القمة كان في عهد السيد عبد العزيز بوتفليقة عندما كان يتولى حقيبة الخارجية وخلال هذه الأثناء، فإن وجود ماكان يعرف بالمعسكر الشرقي برئاسة الاتحاد السوفياتي ساعد على بروز تلك المجموعة من البلدان النامية التي سعت من أجل أن يكون لها تأثير مباشر في المطالبة بأسس علاقات دولية جديدة سياسيا واقتصاديا.
وهكذا بدأت مؤشرات هذا التوجه تتبلور في الأفق من خلال العمل المكثف والدؤوب للدبلوماسية الجزائرية في هذا المربع الحديث، رفقة البلدان التقدمية والطلائعية التي سعت لدعم حركات التحرر ومساندة الثورات الوطنية ومساعدة كل من ينحو هذا المنحى وهكذا فإن التاريخ يسجل طرد ممثل الأبارتيد، نظام الفصل العنصري من الأمم المتحدة، واعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية زيادة على إدخال عرفات إلى القاعة الكبرى للمنتظم الدولي لإلقاء كلمته التاريخية حاملا غصن الزيتون في يده ناهيك عن ماكسبته الثورة الفيتنامية من تأييد كامل وكامبوديا كذلك، واستكمال تحرير القارة الإفريقية (موزمبيق، أنغولا وغيرها). وبرزت أطر سياسية في هذا الصدد منها حركة عدم الانحياز ومجموعة 77 لقول كلمتها الفاصلة فيما يجري في العلاقات الدولية آنذاك.
أما اقتصاديا، فإن الشغل الشاغل لهذه البلدان كان السعي من أجل إدراج عنصري العدالة والمساواة في مسار العلاقات الدولية في جانبيها التجاري والمالي بعقلنة نشاط الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات البنكية الدولية.
خلال مرحلة الثمانينات زال البريق نظرا لعدة اعتبارات منها بروز ملامح التغييرات الجذرية في العلاقات الدولية وظهور بوادر انهيار الكتلة الشرقية وماحدث في رومانيا من الإطاحة بتشاوسيسكو وصعود النقابي ببولونيا ليش فاليزا كان بداية سقوط هذا السند وكل تلك التفاعلات دامت عشرية كاملة وبمجرد دخول سنوات التسعينات اتضح المشهد بجدار برلين وإنحلال أو تفكيك الاتحاد السوفياتي ويوغوغسلافيا إلى دويلات.
هذه التطورات السريعة لم تسمح لأي عمل ديبلوماسي باعتلاء المكانة المرموقة ماعدا مساهمة الجزائر القوية في اتفاق الطائف بخصوص توقيف الحرب الأهلية في لبنان في عهد الأخضر الابراهيمي.
وخلال التسعينات وبالأخص في مرحلة الإرهاب كان الشعار هو إعادة الانتشار لدبلوماسيتنا عبر العالم وهذا بتحسيس البلدان الغربية خاصة بخطورة مايحدث في الجزائر لكن لاحياة لمن تنادي خاصة تحذيرات الجزائر بأن ظاهرة الإرهاب عابرة للقارات ولايحق لكم أن تحتضنوا هؤلاء عندكم وسيأتي اليوم الذي تندمون فيه عما تفعلون للأسف كانت الآذان صماء.
وعاد ذلك البريق ثانية في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بشكل ملحوظ وهذا عندما طاف بكل العالم، قصد إبلاغه بالتحوّل الهام في الجزائر وحقيقة الأوضاع الجديدة وما تنوي البلاد القيام به مستقبلا وهذا بالاستماع مباشرة إلى الرئيس الجزائري بدون أخذ المعلومة من أطراف أضرت كثيرا بالجزائر.. التي كانت تسوق لكلام عن «حرب أهلية» والأمر غير ذلك بتاتا.. وفعلا تغيرت آراء الكثير من هؤلاء الذين قدموا بأعداد هائلة لبلادنا قصد التعاون والشراكة والاستثمار.
وبتجاوز هذه الفترة وتعقد الملفات الدولية إلى درجة الخطورة، مافتئت الجزائر تحذر من تورط أي دولة في مستنقعات الحروب الدائرة هنا وهناك، منذ بدأ الخراب العربي بالكف عن كل هذه التدخلات بالعودة إلى الإشراف الأممي في المسائل الحساسة كالصحراء الغربية، ليبيا، مالي، وغيرها وفي كل مرة يعود الجميع إلى الطرح الجزائري بما يحمله من حكمة وتعقل.