أظهرت هجومات الشمال القسنطيني التي خطط لها بدقة متناهية مدى تبصر قادة الثورة الجزائرية ورؤيتهم الاستشرافية في تغيير معادلة المواجهة مع المستعمر الفرنسي البغيض وتحويل الصراع من نقطة ضيقة جيو سياسية إلى فضاء أوسع يجهض دعاية العدو ومغالطاته وحملات تشويه النضال الجزائري وحصره عند جماعة قطاع الطرق.
كشفت الهجومات عبقرية الفكر الاستراتيجي الحربي لقادة أقسموا بالرب المعبود كسر حالة التردد والخوف لخوض غمار ثورة حددت أهدافها وغاياتها وثيقة نوفمبر وعزز تنظيمها وهياكلها لا حقا مواثيق الصومام ومؤتمر طرابلس معتمده على القيادة الجماعية وتقاسم وظيفي ينبذ عبادة الشخصية والانفراد بالقرار وادعاء كل واحد أنه أحق بأن يتبع وتنفذ تعليماته وأوامره على الآخرين.
هذه الرؤية السديدة التي تناولتها شهادات قادة الثورة من أعلى منابر وسردت في مذكرات مجاهدين وحظيت بالتحليل المعمق في المدارس والأكاديميات العسكرية تعيد للأذهان القناعة المرسخة لأبطال صغرت أمامهم الأشياء وكبرت الجزائر.
أبطال تشبعوا بقيم النضال جاعلين من حملات التعذيب والإبادة والقهر الاستعماري قوة انطلاق نحو الأمام لتغيير المنكر مراهنين على شعب لم يستسلم للجلاد وظل ينتظر بشغف اليوم الموعود وتطبيق مقولة بن مهيدي الخالدة» أرموا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب».
على هذا الأساس جاءت هجومات الشمال القسنطيني لإظهار أن الثورة الجزائرية فجرت لتنتصر. واستشهاد القادة التاريخيين أو اعتقال عدد منهم يزيدها توهجا والتهابا.
كانت هجومات الشمال القسنطيني إجابة صريحة من قادة الثورة على الحصار المفرض على الأوراس الأشم ولإعطاء نفس للنضال التحرري والكفاح المسلح أكثر قوة مبطلة مفعول الدعاية الفرنسية التي اعتقدت خطأ أن استشهاد ديدوش مراد قائد المنطقة الثانية وأسر القائد الرمز مصطفى بن بولعيد أسد الأوراس وكذا اعتقال بيطاط قائد الكفاح المسلح في المنطقة الرابعة.
على العكس من ذلك زادت الثورة اشتعالا وانتشار في خضم هذه الأحداث وتسارع الأمور وتسابق الأشياء محققة أهدافا لا تخطر على الإدارة الكولونيالية في وضح النهار. فقد أوصلت الثورة صداها إلى عمق الأرياف والمداشر وهزت مناطق معمرين كان يعتقد أنها آمنة مؤمنة مساهمة بصفة أكبر في التفاف الشعب حولها والانخراط في معركة المصير مقدما أغلى الممتلكات في سبيل الحرية والانعتاق.
على عكس ما ذهب إليه المستعمر وغلط الدوائر السائرة في فلكه لا سيما حلف «الناتو» نجحت هجومات الشمال القسنطيني في تغيير ما رسخ في الأذهان وأدرك العالم قاطبة أن ما يجري في الجزائر ليس شأنا داخليا فرنسيا لكن ثورة تحريرية يخوضها شعب من أجل استعادة السيادة وصرخ بملء الفم «نحن جند في سبيل الحق ثرنا وإلى استقلالنا بالحرب قمنا لم يكن يصغى لنا لما نطقنا فاتخذنا رنة البرود وزنا».
وهذه الثورة التي أعطتها هجومات الشمال القسنطيني شمولية المكان والزمان وترجمت الوحدة الشعبية والمصير الواحد والتطلع قهرت أسطورة الجيش الفرنسي الذي لا يقهر وبينت بالمقابل عبقرية قادة شباب خططوا لكل شيء فكانت لهم الغلبة والانتصار.