جرت العادة مشاركتك فرحة الاستقلال من كل سنة، كما في سابق عهدك وأنت تحتفي بعيدي الاستقلال والثورة، وفرحة الانعتاق استثناء... لازلت أذكر وأنا طفل قادم للحياة.. أتهيأ بلباسي الكشفي واضعا وشاحا على رقبتي يحمل ألوان الوطن المفدى.. كنت أنتظر هذه الليلة بشغف كبير لأنك ترتدي فيها بدلتك العسكرية وتحمل بندقية على كتفك وتخرج إلى مقر منظمة المجاهدين، وهناك على مسرح المكان يلتقي الرعيل الأول من المجاهدين استعدادا لاستحضار ملحمة «سبع سنين بركات».
إن استذكار ملاحم وبطولات الثورة في مثل هذا اليوم، هي رسالة تحمل دلالات ومعاني الوفاء لرفاق الأمس الذين ضحوا بأنفسهم، من أجل أن يحيا الوطن حرا شامخا، وحضور أرواحهم في هذه الوقفة ليس عربون محبة لرجال كانوا بالأمس في الصفوف الأولى، بل هو تمجيد وتخليد لأشاوس اختاروا الشهادة.. في سبيل الحرية والانعتاق.
لم أكن أدرك حقيقة تلك الدموع التي تنزل وديانا على أجساد أرهبت فرنسا الاستعمارية..ولقنت الحلف الأطلسي دروسا في الكفاح والمقاومة.. صيحات «إخواني لا تنسوا شهداكم من ضحوا...»، إلى آخر مقطع» صوتهم من القبور يناديكم».. كنت أسمع نحيب الثكلى من النساء، ولكنه بكاء الرفاق ممن بقين على العهد أوفياء لرسالة الشهيد والأمة.
لم يكن بوسعي أن أسالك عن سر البكاء هذا والشهداء ليسوا من عائلتك ولا من أسرتك ولا من قريتك... كنت تجيبني بصوت يخيم عليه الحزن.. أنهم أكبر من ذلك بكثير، تنتابني لحظات تتهاطل فيها الأسئلة، لكنني أستعيد غفوتي بحذر لأدرك أن الثورة هي الأم والجزائر، الوطن والشهداء شموعه، فكيف لا تبكي الأم شموع أطفالها.
خمس وخمسون سنة تمر على هذا اليوم وجيل البارحة من الرعيل الأول، لم يعد كما كان في عز الاستقلال، أفل نجمهم الواحد تلو الآخر، بسبب الأمراض من جهة، وأثار التعذيب والتنكيل والتهميش من جهة أخرى وقسوة الحياة، وظلم ذوي القربى في الكثير من المرات، ومن بقي على العهد لم يبدل وبقي للعهد يصون، يحافظ على رسالة الشهيد، إلى أن يلقى ربه.
حل العيد في حلته 55، وسار بعض الرفاق يرتدون ألبسة كتلك التي كنت تبدو بها أسدا هزبرا من أشاوس الأوراس وجرجرة والونشريس، وهاهو خيالك يمر بين الجموع كأنك الآن بعثت من قبرك من جديد تحمل سلاحك وتنشد رفقتهم « من جبالنا طلع صوت الأحرار « فخيل لي أن القبور كالجبال تبعث أرواحكم من جديد.
الجزائر اليوم تكبر في الأعين وفي الجوار تتجمل كعروس تستحضر ذكرى زفافها التاريخي، وهي تشعل شمعة أخرى من شموعها، تزداد الأحقاد والدسائس على استقرارها وأمنها ومكانتها..ووصاياكم يا أبي مازالت تحضرني لصون الأمانة والمحافظة عليها إلى آخر قطرة من دمائنا.
تعود الذكرى بعد نصف قرن ونيف وأنت في مقامك الزكي رفقة الصديقين والشهداء في الضفة الأبدية تحلمون بأن يظل الوطن أكبر من كل الأماني.. وطن يصنع مجده.. وطن وفي لرجاله.. يكبر بأبنائه.