كانت المكواة ذات حجم كبير بخارية التشغيل داكنة اللون ..محدودبة الشكل .. كنجم ثاقب .. تشبه التي نشاهدها في أفلام الاكشن بالأبيض والأسود ، لم أكن فضوليا لأسأل أمي عن سر وصولها إلى بيتنا المتواضع، ولماذا تحرص هي الأخرى على الاهتمام بها مانعة أي شخص الاقتراب منها .. يخيل إليك وأنت تحاول لمسها أنها تشبه كائنا غريبا حل لتوه من فضاء نادر فاقت حمولتها حجمها المحدودب، ناهيك عن الواصل الكهربائي اللولبي الداكن لونه .. يطلق أصواتا تشبه إلى حد ما ضغيب صغار الأرانب .
كانت أمي برتبة قائد في معركة عفوا في البيت أوامرها تطبق ونواهيها تجتنب ومواعيدها تحترم وفصلها في الأشياء لا تحبذ العودة إليها، وهاهي لسعات حنينها ترافقني إلى غاية مدخل المدرسة، أشعر بدفئها يلازمني كحنين جارف ضيع طريقه عنوة، أو صيب من السماء حل لتوه دون تؤدة .. فسقى الأرض العطشى من براثن البشر الآثمة .
أغادر بيتنا صباحا وأعينها تراقبني من على شقة الباب الخشبي، إلى أن أصل إلى آخر الشارع تمتزج الحركات الطفولية في مظهر فريد مازالت ملامحه عالقة بالذاكرة إلى اليوم ..من كل الأعمار ذكرانا وإناثا ملامحهم تبدو جلية وذات نعومة زائدة تعكسها الأسمال والثياب التي نرتديها عكس زملائنا الآخرين .
وفور دخولنا القسم تفعل تلك الفوارق في الهندام وتسريحة الشعر فعلتها فيظهر الاختلاف جليا بين الفئات المتمدرسة .. المتعددة المشارب والمخارج، فتضطر المعلمة إلى أمرنا بفتح النوافذ، وتهوية الحجرة، وهروبا بجلدها من روائح عكرت صفوة صباحها المتجدد مع بداية الاسبوع
هكذا هي بداية اليوم الأول أجواء مشحونة بالضحك والهمز والغمز، وفي الكثير من المرات تتحول تلك النظرات إلى ملاسنات ومعارك بين حينا الجديد الحامل للحضارة والتمدن والأحياء الأخرى كالدرناني والنزلة و»الجومبيار»، وأولاد سالم وأولاد عمار التعليقات والتخابر، سمة اجتمعت بين تلامذة مدرسة مديرها الشيخ سي أحمد يحياوي العالم الوارع والمجاهد والإمام المعلم .. فكثيرا ما كانت مشيته العرجاء تفضح مروره أو اقترابه من القسم، فلا تكاد تسمع لتحركه صوتا إطلاقا بل بالكاد تشعر أنه وراء زجاج النافذة يترقب أي تشويش حتى ينال التلميذ المشوش جزاءه .
وبصرخة واحدة من معلمة اللغة الفرنسية يفتح زملاء الصف الأيمن والأيسر نوافذهم فيما يبقى الصف الأوسط ماكثا جاثيا على طاولات القسم كأن على رؤوسهم الطير .
....يتبع