أعراجيات

في حضرة أمي 3

نور الدين لعراجي
12 جوان 2017

وأنا أهم بالخروج من بيتنا الطوبي المتواضع، مغادرا إلى حيث المدرسة الجديدة مازالت لسعات المكواة على قميصي الأبيض تدفئني قليلا.. تمنع عني هبوب التيارات الباردة فتسبقها حبات متناثرة من غبار المدينة الآثم.. الغبار الذي صار رفيقا أزليا لسكان المدينة حتى أنهم ألفوه وصاروا يتعاملون معه كأنه واحد منهم... وليس غريبا وفي الكثير من المرات ما يتغزل البعض في دلال وشموخ أسطوري فيصفونه بـ»وليد البلاد»، وقصدهم في ذلك أنه صار مظهرا وفيا لحياتهم ويومياتهم.. لا يشغل بالهم كثيرا لحظة الإقدام... بل إنهم يتوجسون خيفة حين يطول غيابه..  ولا يطل كعاداته الدائمة، وإنهم يتعاكسون في ما بينهم بعبارات تارة تمجد هذا القادم الزاحف، وتارة أخرى تبدي استياءها من زياراته المتتالية.
هذا الأخير لا يشكل عائقا للعائلات التي تراها لا تباهي برفع بقاياه العالقة من على جدران البيوت، وعلى طاولات المدارس أو حتى تلك الحبيبات السابحة في علياء السماء إلا أن المكواة مازالت لصيقة بي، تتسلل إلى أوصالي الظاهرة والباطنة..  فتدحرج تلك البقايا العالقة من برودة الليل وقساوة الصباح الهارب من جوف الدجى كأنها تنفذ وصاية أمي بعدم تركي وحيدا، لذلك لم أشعر بحجم الهواء الخارجي وهو يجتاحني غير آسف.
فالقادم للمدينة لأول مرة يعتقد أنها بوابة صحراوية من شدة العتمة الضاربة في حدود السماء.. والضباب القاتم بلونيه الأسود والبني.. مشكلا لونا عسليا يميل إلى ألوان الطيف الداكنة، وممزوجة برائحة تتصاعد من الأرض تسد الأنفس وتوقف النبض على الخفقان، فترى حالة الاستنفار في البيوت ومن على طاولات المقاهي الخشبية المتناثرة فتغلق المحلات أبوابها إلا لماما، خوفا من امتداد شراراته إلى رفوفها فتعكر صفوتها ثانية وثالثة، فقدومه في غدو ورواح لا يتوقف، ليس في حاجة إلى عاصفة بل هو الزوبعة بعينها.
وما أن يختفي حتى تتبدد تلك العتمة وتزول معها مظاهره.. ليكتشف الزائر أو العابر على مشارف المدينة حجمها وشكلها وبنيتها الأسطورية قبل أن تمتد إليها أيادي الإنسان... فعكرت صفوتها النائمة في أرخبيل الحضارات القديمة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19634

العدد 19634

الأربعاء 27 نوفمبر 2024
العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024