أتذكّر تلك السنين العجاف، وأتذكّر مطبخ بيتنا سقفه من الترنيت وبه قارورة غاز وقدرة كبيرة نطلق عليها “باسينة”، كانت أمي رحمة الله عليها تسخّن فيها الماء لأخذ دوش في نهاية عطلة الاسبوع داخل قصعة تشبه تلك التي في مخيلة كل واحد منّا.
كنّا ثلاثة أو أربعة أبناء لأمي وأبي...لم يكن دفترنا العائلي آنذاك يسع صدره لما هو عليه الآن سبعة أفراد ذكرانا وإناثا...لأنّ الحياة كانت صعبة نوعا ما إلى حد التقشف الطبيعي وليس بفعل فاعل.
في المساء وقبل الذهاب إلى النوم كان مطبخنا يشبه حمام الصونة أو أكثر بقليل....حتى أنّ بخار الماء الذي يتصاعد من القدرة سرعان ما تتعلّق قطراته بسقف المطبخ وتلتصق بأعمدة خشبية كانت سندا للمطبخ، وعندما يزداد حجمها عاليا تنزل بردا وسلاما على جسد ينوء صراخا من البرد في عز الشتاء.
تلك القطرات العالقة لمّا تطأ أحجامها المتقاذفة على جسدي كانت تشبه أحجار الثلج وهي تجرجر وتنفذ إلى أقطار جسدي الهوينا. في هذه اللحظات يهتز جسدي أمامها كأن به الطير...تصرخ أمي وبصفعة منها أجلس مكاني وأتسمّر فيه وهي تنزل من السماء مثنى وثلاث ورباع.
لا حيلة أمامي....وأنا بين يدي حدة ابنة سي الدراجي...كيف بها لا تغسل ابنها وغدا موعد الدراسة، ما يتوجّب على الأمهات أن تفعلنه أن طفلها يكون نظيفا روحا وجسدا، لذلك هي تفعل وحريصة في موعدها.
ولأنّني كنت أفضّل لحظة الغسلة تلك...لم تعد القُدرة (بالضمة على حرف القاف وكنا نسميها “البرمة”) تكفي لوحدي، لذلك كنت أتلذّذ بالصفعات المتتالية على جسدي العاري...وكف أمي يشبه تقاسيم الثورة ومجازاتها، لذلك كانت كثيرا ما تنادي على جدتي لأمي الحاجة أم السعد بتزويدها بالماء الساخن، فتقوم هي الأخرى بالصراخ:
«واش بيك كملت الماء نتاع خاوتك...حمام المزابي ما يكفيكش”، ولأنّي أحبّها كنت ألجأ إليها لما يشتد الصراع بيني وبين أمي عندما لا تلبّي لي طلباتي المستحيلة كأن مثلا لا تمنحني خمسة “دورو” أذهب بها لمشاهدة فيلمي “دارا 5” أو “ماسيست” في سينما لوعيل القريب من لارمود بنهاية شارعنا في مكان المشفى الحالي الذي يتوسّط المدينة.
....يتبع