أعراجيات

قهــوة الجــزوة 1

نــــورالديـــن لعراجــي
29 ماي 2017

تسلل الصباح الباكر إلى «حارة الملح» عفوا حارة السينما، كما يتسلل اللصوص من منازل اغتصبت و نهبوا ما فيها من ذهب وفضة وما تشتهي الأعين وتسارعت خطاهم في حذر يعلو وجوههم خوفا من صواعق بشرية تعترض طريقهم.
 أذان الفجر الأول لم تكد تسمع له جهورة ماعدا تلك الذبذبات التي تتركها بحات مؤذن مسجد العتيق بحي السوافة الشيخ مبارك قوارف رحمة الله عليه، كانت بحته واضحة لا تشوبها شائبة ..حتى أن جدتي أم السعد التي بلغت من الكبر عتيا تميز صوته من بعيد على عكس مسجد الرحمة الذي لا يبعد عن بيتنا إلا بضعة أمتار وكان الشيخ سي لهلالي يصعد الى أعلى منارة والتي لم تكن طويلة بالشكل الذي تعرفه بيوت الله، باعتباره كنيسة في العهد القريب وبقي على حالته الى غاية ان قرر شيوخ المدينة تحويله الى مصلى، ثم أخذ في توسعته من الاطراف الخارجية وضم حديقته الصغيرة، فصار على ماهو عليه اليوم بطابقين وبهو ومائضة للوضوء يقال ان محسنا تبرع بها الى المسجد.
أما الجامع العتيق في أسفله تتواجد أول مدرسة كان اسمها السعادة، دون أن أضيف شيئا لها فيكفي انها مشتلة للكثير من إطارات الدولة من الجنسين اليوم ...المسافة قلت لا تبعد عن نزلنا إلا خطوات معدودات.
في الشارع الرئيسي وفي زاوية منه تقابلك مقهى حشاني...الشيخ صاحب العمامة البيضاء وقندورة أشد نصاعة من عمادته الشفافة…يفتح قفل مقهاه بمفتاح أكبر حجما من يده ويشعل تلك الحجرات من الفحم وتبدأ رائحة القهوة توزع شتاتها في أرجاء المدينة وتمتد إلى أعلى الشارع لتصطف شاحنات نقل العمال وأصحاب الخضر ممن يتوّجهون إلى أسواق سطيف وسطارنو وغيرها لجلب الخضروات والفواكه.
 يخرج المصلّون من شيوخ البلدة يجلسون على مقاعد المقهى الخشبية ينتظرون دورهم في تذوق قهوة الجزوة .. وهما ثلاثة غلايات نحاسية من الطراز العثماني يتجمرن على حبات الفحم الحجري وتصعد الى أعلى رغاويهن ويبدأن في ذرف تلك الفقاعات المتداخلة بشتى الاحجام. فكانت أمي عندما تناولني قهوة الابريق الازرق تظهر هذه الفقاعات تقول لي بلغتها الطيبة والنادرة «جايينك الصوارد « وتقصد ان حظي اليوم مع النقود .. وعادة ما كنت أفرح لسماع ذلك الى غاية ان ينتهي المساء ولا يدخل جيبي ولا سنتيما ...فأعود إليها شاكيا لمنحي بعض «الدوروات» يكون محل عمي جعمندي منفذها الاخير.
تبدو قهوة الجزوة العتيقة منفذا حقيقيا لشرب القهوة عن حقيقتها فأنت تشعر بأنك في ادغال افريقيا والبرازيل والسالفادور وأنت ترتشفها بحذر جنوني حفاظا على ذوقها المتميز وحتى تبقى ماثلة أمامك في تلك الكؤوس الشفافة ذات الحجم الصغير.
كان لعمي حشاني، صاحب المقهى، نادل ذو بشرة سوداء يجيد تحريك الجمرات وهي في كانون حديدي من صنع عمي خميسي، وهو ذو قامة قصيرة ولكنه فنان نادر في ترويض الحديد الى أحجام متنوعة.
في هذه الأثناء تبدأ الجموع تباعا تتوافد الى مقهى حشاني فبعد السابعة هناك موعد آخر مع مشروب الحار الذي يأتي من عملية تنقيع لحبات القرنفل العديدة ويشرب ساخنا مع ترك بعض من المتعة في الحلق.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024
العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024
العدد 19522

العدد 19522

السبت 20 جويلية 2024
العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024