لم تبخل أحزاب عديدة في تسويق مواقف تعكس ميولا للانخراط في نمط عمل وطني جديد بعد الانتخابات التشريعية، غير أنه بمجرد ظهور النتائج سجل تراجع والعودة إلى التموقع في قوقعة مقاطعة كل ما من شأنه تعزيز الجدار الوطني الداخلي في مواجهة تداعيات العولمة خاصة الاقتصادية والمالية منها وكذا ذات الطابع الجيوسياسي الإقليمي المتميز بإفرازات تخفي خطرا لا يمكن تجاهله ولا يتحمل استمرار التهرب من تحمل المسؤولية على كافة المستويات.
من الصعب تفهم ما ذهبت إليه حركة مجتمع السلم التي أظهر رئيسها مقري قبل الرابع ماي توجها واقعيا بدأ بالمشاركة في التشريعيات وتنصله من ارتباطات سابقة تصب في رفض كل ما هو بناء وإيجابي رغم ما فيه من نقائص، لكنه سرعان ما وجد في قرار مجلس الشورى مبررا للابتعاد عن ذلك التوجه الإيجابي والتزام موقف يعكس حالة غير دقيقة لحزب يسجل له التاريخ في ظل قيادة المرحوم محفوظ نحناح توجهات وطنية بامتياز وترفعا جدير بالإشادة عن أنانية حزبية أو طموحات فردية خدمة للجزائر خاصة في زمن العشرية السوداء.
إن الظرف الراهن إقليميا ودوليا لا يقل خطورة عن تلك المرحلة التي تعرضت خلالها الجزائر لهجمة مدمرة كلفت المجموعة الوطنية الكثير، ولا تزال التهديدات قائمة بثوب آخر، لذلك تتطلب من كافة الشركاء السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين التحلي بالحد الأدنى من الشعور بالخطر وتحسب ما ينجر عن أي خلل أو تهاون في تقديره، بل يقتضي الواجب التزام الجميع درجة عالية من الحذر وإدراك تبعات كل موقف يتعلق بمستقبل الأجيال التي تحتاج إلى تعزيز النسيج الاجتماعي وانسجام الطبقة السياسية وتجند الشركاء لدرء أي خطر محتمل.
ومن الخطأ رهن المشاركة من عدمها بنصيب أي حزب في المقاعد البرلمانية، ذلك أن المسؤولية الوطنية، التي لم يتوقف مقري عن ترديدها، تتجاوز بكثير مثل تلك المكاسب على اعتبار أن المصلحة الوطنية قاسم مشترك يقتضي من الجميع حمايته والدفاع عنه بروح من المبادرة وبعيدا عن أي مقايضة، ومن ثمة الدخول في معترك التحول الوطني الشامل دون حسابات ضيقة.
وكان يتوقع انطلاقا من الخط الذي عبر عنه مقري أثناء الحملة الانتخابية أن يجنح إلى تعميق خيار المشاركة وتوسيعه من التشريعيات إلى الدخول في الطاقم الحكومي وتجسيد ما لم يتوقف عن ترديده من حب للجزائر واستعداد لخدمتها وتفضيل المصلحة العليا عن المصلحة الحزبية، ولم يكن من الحكمة ترك صياغة مثل هذا الخيار للتصويت، بقدر ما كان المفضل، أن يتحمل رئيس الحزب كامل المسؤولية ويتخذ القرار الجريء كونه الأكثر دراية بثقل التحديات وحساسية الرهانات، خاصة وأن شريكه في التحالف عن حركة التغيير عبد المجيد مناصرة عبر عن استعداده لدخول الحكومة ومهد بذلك المجال أمام مقري الذي فضل سبيلا آخر.
وقد تكون هناك خلافات عميقة داخل حركة سياسية تميزت لما كانت تحت قيادة المرحوم نحناح بنضج كبير، حينما تجاوز إطار المطالب الحزبية الضيقة وانخرط في مسعى التوجه الوطني الشامل كطرف محوري لا مجال لديه في ذلك لأي مساومة أو ابتزاز أو متاجرة، فحفظ له التاريخ مكانة مرموقة يطبعها الاحترام حتى لدى خصومه التقليديين. وبدل أن تعالج تلك الخلافات، التي عكستها نتائج تصويت قرار الموقف من دخول الحكومة، بروح بناءة يطبعها تأكيد الولاء لقيم الوحدة الوطنية وتجسد ثقافة المصالحة التي تبدأ مع الذات والمحيط المباشر لتشمل المشهد الوطني بكل تنوعه واختلاف الرأي فيه، تم تفضيل العودة إلى خندق المعارضة التقليدية التي لا تضيف قيمة نوعية ولا تسمح بتجسيد توسيع المشاركة وتحرم إطارات وكفاءات من تقلد المسؤولية.