هل كان الموت قدرا محتوما ان يرحل الشاعر عبد الرزاق ناصري في ظروف أكثر قسوة من تلك التي رافقته في حياته ؟ وهل نهاية هؤلاء الذين يكتنزون الكلام المقفى والحرف الفصيح في غيابات النسيان سيظل أمرا مقصودا؟ هل ستظل لعنة الحياة تتبع مساراتهم وخطواتهم الى أرذل العمر؟
يرحل «الزعيم»، كما يفضل أبناء بريكة مناداته صاحب أطول القصائد .. في الغزل والمدح والهجاء...يختفي من زوايا الحياة ومشاقها .. وهو الذي طلقها بالثلاث عندما اختاره جنون الشعر ليكون إليه رفيقا. فأختار ان يكون سفيرا لجنون القول وعربدته وزندقته وطيبته وتميزه ...يختفي في صمت قاتل، كما الموت عندما يقبض آخر الانفاس .. ويحجبه الهمود عن أعين المدينة، كما تنسل شمس الخريف من ضباب الشتاء.
أتذكر أنني التقيته في بداية تسعينيات القرن الماضي لما قمت بتنصيب فرع رابطة ابداع ببريكة وأنا الباريكي العارف بخبايا الكتابة والمدرك للأسماء التي تكتب في صمت وهم قلة يعدّون على الاصابع في تلك الفترة ...الى أن خرج لي من وحي القصيدة لأكتشف موهبة شعرية تتفنن في قول الشعر الشعبي عن جدارة واستحقاق ...هالني ما سمعته من فم هذا الانسان الطامح وسرني ان نشرت له بعضا من نصوصه الشعبية في بعض الوسائل الاعلامية التي اشتغلت بها.
لكنني فعلا تفاجأت بتلك الموهبة القادرة على خوض غمار متون الشعر الى أبعد من ذلك واختفى الرجل من ذاكرتي واختفيت لظروف عرفتها الجزائر، لم ألتقيه بعد ذلك وقد مرت عشرات السنين .. وتفاجأت في جلسة رفقة بعض، بعد هذا العمر الطويل أني التقيته ولكنه في شكل آخر وقد أخذت منه الحياة كل شيء .
قبله وفي نفس النهايات التراجيدية وضع الشاعر فاروق سميرة حدا لحياته من أعلى جسر سيدي راشد بقسنطينة، وقبله بسنوات قليلة أسكت قطار السكك الحديدية نبض الشاعر عبد الله بوخالفة الى الأبد ... وليس بعيدا عنهما اختارت الشاعرة صفية كثو جسر تيليملي خيارها الاخير واضعة نقطة النهاية لتجربة شعرية وقلم نسوي يكتب باللغتين .... قد أتحدث عن هذه التجارب الثلاث التي ربما تركت نهاياتها ..حرقة الأسئلة المفتوحة والمؤجلة.
في البداية لم أقو على معرفة من الرجل مع ضيق الذاكرة ولكن حين عاودت شريط الامس البعيد عرفت ان الفقيد قد اختار عالما أخر أكثر جنونا من الشعر والقصيدة .. وكان خياره صمام الامان لكل المتاهات والمغالطات التي تضع نقاط البدايات لكل عاشق للحياة .
«الزعيم « اختار منطقة «الحنية « أخر محطة له ومن «ألحقنة « ذلك المسبح المفتوح على سد بريكة أين كنا نلجأ إليها من الصمايم في عز الصيف نتعطر بمياه غديرها الراكدة ..وتحت شمس قاربت الاربعون درجة كانت دهشتنا لا توصف ...بالرغم من أنها كل سنة تلتهم اطفالا في عز الزهور غرقا في مياهها.
عن مقربة من هذا الوادي المفتوح على أعماقه المجهولة وجدت جثة الشاعر ناصري مرمية، كأنه اختار الماء ليطهره ويغسله من قسوة الحياة وظلم المدينة وهجران أهلها له. أو لأن المكان فيه من السكينة ما جعله ضالته الاخيرة .
نم قرير العين أيها الشاعر الزاجل .. نم هناك على أفرشة القصيدة والهوس... نم كأنما لم تعش ولكن شعرك سيردده الشعراء وأصحاب الاغاني في الحفلات والأعراس... وسيرددها جيل بعد جيل ...وداعا الزعيم.. وداعا عبد الرزاق.
وداعا «الزعيم»
نور الدين لعراجي
08
مارس
2017
شوهد:523 مرة