المرجعية الدينية في الجزائر إعتمدت دائما على مرتكزات متينة في تبليغ رسالتها للإنسان، من خلال اختصار مسار كل حركية القيم في الإعتدال والوسطية ونبذ الغلو والتطرف لتفادي تداعيات نحن في غنًى عنها.
والمفهومان: الإعتدال والوسطية، هما نتاج كل هذا التفاعل في بناء فكر متوازن بين سلوكات الفرد يكون عبارة عن حاجز يمنع أي تجاوز وفي مقابل ذلك يتركه صاحب القرار في صناعة الموقف الصائب الذي يتمشى مع رأي المجموعة الوطنية... في عدم الانجرار وراء كل ما هو غريب، قد يؤدي إلی التأثير على هذا التماسك الذهني.
وإن كانت هذه المنظومة الفكرية راسخة في وجدان الجزائريين، فهي نابعة من وسط مافتئ يعطي تلك الصورة القائمة على التسامح واحترام الآخر، إن كان الأمر يتعلق بالأسرة أو الفضاء التعليمي، أو الإطار الخاص بالشغل.
كما أن هذا المسعى له امتدادات في أعماق هذا المجتمع، يعود إلى ما شهده هذا البلد من توافد العديد من الموجات البشرية على أرضه. وبالرغم من كثرتها، فإن ما تم توارثه يصب دائما في اتجاه الحفاظ على ذلك الخيط في استقرار الإنسان بهذه المنطقة. وقد رفع لواء هذا التوجه الأمير عبد القادر وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وثورة نوفمبر، كل هذه الشخصيات والمؤسسات كان لها حضور قوي في حماية هذه المرجعية من التشويهات وحتى التلاعبات.
وعلى الرغم من هذا العمل المتوجه إلى الإنسان، مع التحرك باتجاه إعداد أرضية سليمة وقواعد صحيحة لترسيخ كل ما يتعلق بالإعتدال والوسطية، إلا أن فعل التسييس هو الذي خرّب هذه الإرادات النقية، من خلال إقحام الإسلام في السياسة. من هنا بدأت كل بلاوى الشعوب وأدخلتها في أنفاق ومتاهات تدفع فاتورتها اليوم.
وعندما أعطى بعضٌ الأولوية لهذا التيار، إنهارت كل القيم ودشن الأمر مع عوامل لا يمكن حجبها، منها بروز خطاب ديني مشرقي متطرف حمله رجال أو شيوخ عبر «الكاسيت» خلال نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، بروز الثورة الإيرانية وأحداث أفغانستان، كل هذه العناصر بلورت الفكر المتوجه إلى الغلو والتطرف وظهر لهؤلاء أن مطالبهم لن تتحقق إلا بأساليب أخرى وهو ما شاهدناه ووقفنا عليه منذ تلك الفترة إلى غاية اليوم، لا داعي للدخول في تفاصيل يعلمها العام والخاص.
بإنشاء الأحزاب السياسية ذات الإيديولوجية الدينية والسعي للوصول إلى السلطة، زاد من تعميق هذا الفكر نحو حرق كل المراحل وأثر تأثيرا مباشرا في استقرار هذه الدول والأدلة موجود في المشهد الدولي اليوم. هذه التجربة المريرة لهذه الأحزاب مع الواقع وتسيير الشأن العام، قررت الكثير منها مراجعة حساباتها واحتلال المقاعد الخلفية وهذا ما يجري بحثا عن التجربة في إدارة المؤسسات.
وإن كان المكون الديني بعدا أساسيا، إلى جانب المكونات الأخرى، كفكر الصانع لمنظومة التوجهات في النشاط السياسي، إلا أن الكثير من التشكيلات عندنا راجعت خطها وهذا بالتكيف والمطابقة مع القوانين المتعلقة بهذا الجانب من ناحيتي التسمية والبرنامج، لتكون على مسافة واحدة مع باقي نظيرتها في الساحة الوطنية.
المطلوب من هذه الكيانات السياسية في أدبياتها، حماية المرجعية الدينية في الجزائر، باعتبارها أداة للوحدة الوطنية، ومكافحة الغلو والعمل في اتجاه عدم السقوط في خيارات العنف وما شابهها وهذا في حد ذاته مجهود دائم ومتواصل، غير مرتبط بظرف معين لتفادي تكرار التجارب المريرة.
ولابد هنا، من الإلتفات إلى الآليات القادرة على تحقيق هذا المبتغى. ولا يمكن تصوره إلا في شخصية الإمام، الجمعيات الدينية، العلماء، الشخصيات والأساتذة وكل من له دخل في بلورة فكر معتدل وهذا بالتوازي مع وسائل إعلام هادفة.