كنت لا أود الحديث عن الطاهر بن عيشة الباحث والكاتب والمؤرخ والرحالة، بقدر ما وددت استظهار بعض الأطياف النادرة التي اتسمت بها روح هذا الإنسان صاحب الفكر والاجتهاد في المسائل التاريخية ذات الخلافات المستعصية على شكل ما يطرح دوما في المسائل المنتهية إلى العقم «من سبق الأول البيضة أم الدجاجة»، باعتباره العارف و المنقذ في كل الحالات مهما كان نوعها.
ولأن الرجل رافق كل مراحل بناء الوطن من التحرير إلى التشييد، فإن حضوره كانت له دلالات كبيرة وعميقة في بناء الثقافة الجماعية للجزائر من منطلق الروح الإبداعية التي لازمته، وظلت لصيقة به كشخصية ثقافية وفكرية، ينتظرها المستمع عبر الأثير، ما شكل محطة مهمة في عطاءاته المتنوعة ـ إلى أن أصبح صديقا لكل رؤساء الجزائر من فجر الاستقلال إلى غاية وفاته منذ سنة تقريبا.
وقد سأله رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة ذات مرة مقدما إياه كشخصية ثقافية لضيوف الجزائر من مؤسسة البابطين في لقاء أقامه على شرف اتحاد الكتاب الجزائريين « هذا أقدم يساري في الجزائر « متوجها إليه بسؤال: هل مازلت يساريا ؟ حيث رد عليه الفقيد بن عيشة، مازلت وسأظل يساريا جزائريا وطنيا .
أبرز بن عيشة بخرجاته الكثير من الفواصل التاريخية في المشهد الثقافي والإسلامي محدثا طفرة في مجال البحث خاصة ما تعلق بالاختلافات العالقة حول الموروث المادي والثقافي لدول جنوب شرق آسيا، وأصبحت أبحاثه في الوعي الثقافي يشهد لها عربيا ودوليا .
الحديث عن بن عيشة هو كتب متعددة قد لا تفي لاستذكار ما قدمه للثقافة الوطنية من مداخلات وندوات ودروس ومساهمات سواء في الإذاعة الوطنية أو بالتلفزيون من خلال الريبورتاجات التي مازالت تحمل بصمته، أو تجارب مختلفة أماط عنها اللثام بالبحث والتنقيب المعرفي، مستظهرا واقعا تاريخيا ومفصليا في الحضارات القديمة في قارتي آسيا وإفريقيا كان في طي النسيان، إلى أن وصف بالباحث الرحالة.
فقدان الباحث والموسوعة الرحالة بن عيشة هو فقدان لقامة ثقافية كبيرة نستحضرها اليوم، كأولى محطة بعد رحيله ونناشد من خلال ذلك الهيئات الرسمية من وزارة الثقافة والمجاهدين والأوقاف والتعليم العالي أن تقوم بجمع أعماله الأثيرية والتلفزيونية باعتبارها كثيرة وكذلك الحوارات والمساهمات التي قدمها باعتباره راهن على الثقافة الشفهية عكس الكتابة وهي كثيرة جدا، مقارنة بسنه واحتكاكه بالأوساط الثقافية على مختلف مشاربها، فإعادة الاعتبار للرجل لن يكون إلا إذا تم تجميع كل هذه العطاءات وطبعها لتكون رافدا معرفيا من معارف الأمة التي لا تتنكر لكتابها وأدبائها ومؤرخيها، خاصة وأن الرجل جمع بين جهادين، مقاومة المستعمر ومحاربة الجهل.