عندما قدّم الراحل الطاهر وطار باكورة الراحل حديثا مرزاق بقطاش «طيور في الظهيرة»، بشّر بميلاد «كاتب المدينة الجزائرية»، ونبّه إلى فكرة طريفة مفادها أن الأدب الجزائري «ولد في الريف» وهو ريفي بالأساس، وحتى وطّار نفسه عندما تناول قسنطينة في رواية «الزلزال» دخلها «بدويا» لا يعرف إلا جسورها ومقاهيها وشوارعها ولم يعرف شيئا عن دواخلها وأسرارها الدفينة.
وإذا كانت المدينة في المخيال الريفي، تمثّل «الرطانة» و»العجمة» الكلامية، فإن بقطاش قدّم نموذجا مختلفا، فابن «مدينة سيدي عبد الرحمن» المعتز بلغة أمه الأمازيغية، أبدع في عشق اللغة العربية، وسخّرها لنتاجه الروائي الغزير، وهو خريّج معهد الترجمة الذي يجيد اللغتين الفرنسية والإنجليزية.
وإذ نجحت رواية «ألف وعام من الحنين» لرشيد بوجدرة في العالم العربي وعدّها البعض من أفضل الروايات في تاريخ اللغة العربية، فالعرب قرأوا النص بترجمة بقطاش المشبّع بالقاموس العربي الكلاسيكي الذي مكّنه من نقل روح النص إلى لغة كأنه كُتب بها.
بقطاش كان مثقفا «عضويا» بمفهوم المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، واتخذ مواقف سياسية في الظرف الصعب وكلّفه ذلك صوته، عندما اخترقت رصاصة حاقدة حنجرته وكادت تكلّفه حياته.
أصبح مرزاق يتكلم بصعوبة، لكن رشاقة أسلوبه زادت مع مرور الزمن، فأبدع أولا في بعض المجلّات العربية قبل أن يعود إلى بلده، ليزاوج الكتابة باللغتين، لكن القارئ لمقالاته باللغة الفرنسية، يقرأ عمقا عربيا، فهو يقدّم روائع المتنبي وأبي العلاء المعري وأبي تمّام إلى قارئ تعود إلى رموز من قبيل فيكتور هيغو وبلزاك وفولتير.
دفع ثمن مواقفه السياسية غاليا وكلّفه خلاف حاد مع «عرّابه» الأول الطاهر وطار الذي اختلف معه في الموقف من «محنة التسعينيات».
كنا نتكلم عن الرجلين بضمير الحاضر، وأصبحنا مضطرين لاعتبارهما غائبين، فرحم الله وطار وبقطاش.