في عصر سابق، لم يكن للحمقى والمغفّلين دور إلا «تحلية» المجالس بنوادرهم وطرائفهم التي لا تنتهي، وكانت أخبارهم محور كتب على غرار ما فعله الجاحظ وأبو الفرج بن الجوزي، لكنهم اليوم توّلوا زمام الأمور وأصبحوا يصنعون الرأي العام، مثلما انتبه إلى ذلك متأخرا الروائي والمفكر الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو.
كان إيكو متحمسا للتكنولوجيات الحديثة، وكانت محور أبحاثه في علم السيمولوجيا، لكن رأيه انقلب تماما، عندما انتبه قبيل موته إلى أن الوسائط الحديثة على غرار تويتر وفيسبوك «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى»، والأخطر أن كثيرا من الحمقى ارتفعت أصواتهم فوق أصوات المفكرين والعلماء وأصبحوا يصنعون الرأي العام بآرائهم الشعبوية وبأخبارهم المزيفة.
لقد رحل أيكو عن عالمنا سنة 2016، وهي السنة نفسها التي أطلق فيها أستاذ العلوم السياسية في جامعة مونتريال ألان دونو كتابه «نظام التفاهة» الذي عاد فيه إلى جذور الظاهرة ودق ناقوس الخطر، عندما قال إن الجدل تحوّل من الأفكار إلى الأشياء، وإن صوت العقل يكاد يغيب وسط هذه المعمعة التي صنعتها التكنولوجيات الحديثة.
كانت الدول تحتكر الحقيقة وتحتكر الإعلام، وكانت صناعة «الميديا» تحتاج رؤوس أموال ضخمة وعقولا كبيرة تديرها وتصنع الرأي العام، وفي الدول الليبرالية، كانت الأفكار تتطور بسرعة نتيجة الجدل بين الأفكار المتصادمة، لكن المعادلة تغيّرت تماما وأصبح «الحمقى والمغفلون» يقودون فيالق من الناس ولا يحتاجون إلا إلى صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي بدون مقابل مالي.
انقلبت الموازين إذن، وساد «نظام التفاهة» وانتشرت النقاشات المزيفة والأخبار الكاذبة، وأصبح أصحاب العقول غرباء فعلا، بعضهم ينشر آراءه ولا يجد من يضع له علامة إعجاب واحدة، مقابل حصول صور لفنانين جهلة على ملايين «الإعجابات» وآلاف المشاركات وأصبح هؤلاء يصنعون الرأي العام ويؤثرون في وسائل الإعلام التقليدية التي أصبحت تلعب دور التابع وتنقل الأخبار دون التحقق من صدقها.
لقد انتقم «الحمقى والمغفّلون» بطريقتهم الخاصة، وتحوّلوا إلى موجهّين للرأي العام، بأخبارهم الكاذبة و»نظام التفاهة» الذي أسّسوه. ولكن..