من السهل إدراك أن المشكلة في أي نظام سياسي ليست السلطة، فالسلطة ضرورة في أي دولة، المشكلة هي التسلّط. التسلّط هو أن يتحوّل قمع الحريات لسياسة، وأن يتم احتكار السلطة ومنع كل رأي آخر، وهي احتكار الثروة ووضع السلطة في خدمة المصالح الخاصة أساسا.
هذا أمر ينبغي إدراكه والبلاد تستعد لبدء مسار تغيير وبناء منظومة حكم متخلصة من كل عوامل التسلّط. ذلك من مستلزمات الثقافة السياسية الجديدة، وينبغي أن تشترك كل النخب في نشر مثل هذه الثقافة. فالقول إن الدولة ليست السلطة فقط، وإن السلطة كلما كانت مقيدة بالقانون كلما كانت بعيدة عن التسلّط هو قاعدة كل رؤية سياسية بنائية. وكل الجدالات الأخرى ليست مفيدة في هذه المرحلة التي تعيشها البلاد.
لا يمكن الاطمئنان مثلا لاحترام الحريات، كل الحريات، في حال ساد التسلّط، ويمكن الاطمئنان تماما إن كانت السلطة مقيّدة وخاضعة للمراقبة والرقابة. الأمر بهذه البساطة حتى إن لم يكن بسيطا.
في كل الأحوال ينبغي قلب قاعدة سادت طويلا. القاعدة كانت هي أن السلطة مطلقة اليدين والمجتمع وقواه مقيد بأشكال وألوان مختلفة. وينبغي أن نحرر كل الطاقات الاجتماعية، حركة جمعوية ونخب أكاديمية وثقافية وغيرها، وأن نقيد السلطة وأن نضمن فعلية وفعالية هذا التقييد القانوني السياسي.
من ناحية أخرى، معلوم أن المشكلة لم تكن في النصوص، بل هي في النفوس وفي الممارسات. لهذا من دون إرادة سياسية حازمة وقوّية ستظل النصوص غير قابلة للتطبيق. هناك دائما مسافتان بين النص وتجسيده، مسافة زمنية، لأن الأمر يحتاج أحيانا نصوصا تطبيقية، ومسافة نوعية، وهي تتصل بمقاصد المشرّع وبين شكل تطبيق النص، المحدود حينا والمنحرف أحيانا أخرى.
هذه من الأمور التي ينبغي أن تجمع كل النخب وكل القوى الفاعلة، ومشروع الدستور المقترح يطرح رؤية عملية لتجاوز حال التسلّط وأسبابه، ويبقى للإرادة السياسية أن تدلل ما قد يطرح من عوائق ومصاعب أثناء التجسيد.
لهذا ولغيره، على النخب السياسية، كل النخب السياسية، أن تخرج، مرحليا، من منطق التدافع إلى منطق بنائي يضمن تجسيدا فعليا ونوعيا لمحتوى الدستور، ويضمن قيام المؤسسات وقيام الرقابة الفعلية والتمثيل الفعلي والشرعي للجزائريين، قبل المرور للعمل السياسي التنافسي العادي.