عندما صدر كتابي «كيف تُحكَم الجزائر؟» سنة 2011، ذهبت إلى بيت الراحل عبد الحميد مهري أهديه نسخة، وكنت قد صغت سؤالا ظننت أن طرحه ضروري. مع عطر الهيل في القهوة التي يصبها سي عبد الحميد بنفسه، قلت: ماذا لو قُدّر لك ولجيلك العودة إلى 1962، ما الذي تراه ضروريا أن يتغير في تجربتكم في الحكم؟ نزع، رحمه الله، نظارته دَلّك، كعادته، حاجبيه ومسح عينه، وتلك طريقة تمكّنه من ربح بعض اللحظات للتفكير، ثم أعاد نظّارته وقال لي بتصميم واضح: نعود لبيان أول نوفمبر!! لم أتمكن من منع ابتسامة من الارتسام، فقال لي: لم أقنعك.. قلت: في الواقع نعم.. كنت أنتظر.. فقاطعني: شوف عُد للبيان اقرأه بتمعن.. فحتى الغموض الموجود في بعض فقراته كان بنّاءً ومفيداً في قيام ذلك التوافق التاريخي.
وفعلا عندما نعود لكل فقرات ومعاني بيان أول نوفمبر نُدرك أن عوامل النجاح فيه كانت «وطنية» جدا، وأقول وطنية بالمعنى الجغرافي وبالمعنى العاطفي.
اليوم والبلاد ونُخبها تسعى للتأسيس لبداية جديدة، المرجعية مرة أخرى هي بيان أول نوفمبر. والتوافق الجديد لا يمكن أن يخرج عن معاني البيان وعن توصياته وخياراته.
اليوم ما زال هذا التيار هو الوحيد الذي يملك القدرة على الجمع وعلى بناء التوافق. فهو الذي نجح في انتزاع الجزائر من براثن الاستعمار، وهو الذي جمَع، وحّد وجنّد كل الجزائريين، لكي تعود الجزائر لأبنائها كل أبنائها.
لم يكُن البيان إيديولوجيا ولم يكن سياسويا ولا شعبويا. كان مستلهماً للكثير من معاني الحرية والعدالة والإنصاف. غلق الباب بوضوح كامل أمام الكثير من الأشياء، أمام ديكتاتورية البروليتاريا وأمام أي هيمنة رأسمالية، ووصف الدولة بوضوح كامل بأنها ذات سيادة وبأنها اجتماعية.
لهذا فإن ما حدث من تحالف في العشريتين الماضيتين بين السلطة وطبقة طفيلية، وقيام احتكار واضح للسلطة والثروة، كان بكل المعاني انحرافا خطيرا عن خط نوفمبر وتيها خطيرا في براثن المال، أضعف الدولة وشرعية مؤسساتها، عبث بالقانون وبالأخلاق.
لهذا فإن العودة إلى نوفمبر تعني تعزيز الدولة الاجتماعية والفصل الواضح بين السلطة والثروة.