اليوم، يتجلى بوضوح أن الفوضى الخلاّقة التي غرقت فيها منطقة الشرق الأوسط مند بداية الألفية الثانية، لم تكن مجرد عملية تدمير لأمن المنطقة واستقرارها، ولا خطّة للإطاحة ببعض الأنظمة والزج بدول معينة في حروب داخلية مميتة.
فبعد أن بدأت العواصف تهدأ، والرؤية تتّضح، بات الجميع يرى أمامه بالفعل شرق أوسط جديد غير الذي كان من قبل، ليس بخريطة جغرافية مغايرة، وإنما بسياسات دوله التي كسّرت المحظور وغيّرت المفاهيم وقفزت على الثوابت، فتحوّل الممنوع إلى مسموح ومرغوب، ورحّلت الكثير من المبادئ السياسية والأعراف الاجتماعية إلى متاحف التاريخ، لنقف على متغيرات صادمة، أصبحت للأسف حقيقة بموجب ما يريده الذين قادوا ولازالوا المنطقة العربية إلى هذا التغيير، وبموجب القانون الذي أصبح يسود العالم وهو «حكم القوي على الضعيف».
أول ما نسفته الفوضى الخلاقة لعرّابها «بوش الإبن»، بالإضافة إلى الزجّ بالعراق وسوريا واليمن في متاهة حروب مروعة، هو إحداث شرخ عميق في رابط الوحدة والمصير المشترك، الذي ظلّ لعهود صمّام الأمان الذي يحمي البيت العربي من كل الهزات والمؤامرات.
فأصبح عاديا أن نشهد العلاقات بين هذه الدولة وشقيقاتها تتمزّےق، بل ولم يعد غريبا أن نرى دولا عربية تخوض حربا على أرض دولة شقيقة، لكن الزلزال الكبير الذي لم نكن نتصور حدوثه بمثل هذه السرعة والجرأة، هو ذاك التغيير الجذري في الموقف العربي الرسمي - ولا أقول الشعبي - اتجاه إسرائيل، حيث أخذت الدول العربية تتسابق للارتماء في حضنها، مقرّة بها دولة جارة تستحق أفضل المعاملة وأمتن العلاقات.
«بوش» لم يكن يهدي عندما تحدث عن الفوضى الخلاقة التي حوّلت في ظرف سنوات المستحيل إلى حقيقة، ونقلت الكيان الصهيوني من خانة العدو إلى رتبة الصديق المميّز، ولن أستبعد مطلقا نجاح ترامب وصهره كوشنر في تنفيذ «صفقة القرن» التي وضعت أساسا لترفع إسرائيل فوق رؤوس الدول العربية التّعيسة.
اليوم نحن أمام واقع مرير، أصبح فيه الفلسطينيون بدون غطاء عربي، لكن الأمر ليس كارثيا كما أتصوّره بل على العكس تماما، إذ يمكنهم الاعتماد على أنفسهم، والبحث عن وسائل مقاومة ومواجهة جديدة، تحفظ قضيّتهم العادلة وتحمي حقوقهم المشروعة، ففي النهاية «ما حكّ جلدك غير ظفرك».