الـ «عشير» ثم الأوسكار

بقلم: نورالدين لعراجي
20 جويلية 2020

ظل تكريم الأموات السائد الأعظم في مشهدنا السياسي، الاجتماعي والثقافي، وظلت العادة غير المحمودة سائرة في طريق التكريس على رأي المثال الشعبي «كي كان حي شاتي تمرة وكي مات علقولو عرجون»، وكادت الظاهرة أن تصبح عرفا متداولا، سرعان ما اختفت، واقتصر وجودها على بعض المستويات المحلية فقط.
تكريم الشخصيات الفنية والعلمية بعدما يحجب الموت أصحابها عن الأنظار، يستفز غيابهم الأزلي المؤسسات الثقافية والعلمية، فيشعرون بأنهم في حاجة إلى حضورهم ليسارعوا إلى تكريمهم بعد الممات، وظل الحال هكذا يستفز الأموات في قبورهم قبل أن يخرج الأحياء من جحورهم.
التفاتة القاضي الأول في البلاد للفنان القدير والأسطورة عثمان عريوات بمنحه وسام عشير من مصف الاستحقاق، هو اعتراف من أعلى مؤسسة سيادية في البلاد بعطاءات الرجل الفنية، وإشهاد بنجاح مساره السينمائي والتلفزيوني في إدخال الفرجة على قلوب الملايين من المشاهدين، الذين يجتمعون حول عروضه وقد يفترقون حول مشاهدة أي نشاط سياسي مهما كان نوعه.
لفتة طيبة وخطوة عملاقة لإعادة الاعتبار لنجوم الشاشة والخشبة والسينما وكل الذين يساهمون في الإضافات المميزة كل من موقعه، وحتى يحظى هؤلاء بالتكريم والتبجيل في أوطانهم لهو عين العقل قبل ترشيحهم لجوائز عربية ودولية كالأوسكار مثلا، لاشك ان عريوات رفض كل التكريمات التي دعي إليها، بل رفض حتى حضور صخبها وهمجها لأنه رافضا إهانته كقامة فنية متشائما من البهرجة التي تقيمها هيئات ثقافية، في المقابل تنسى منحه أبسط حقوقه كفنان وكاتب سيناريو، فالرجل مدرسة قائمة بذاتها.
إن تكريم صاحب رباعية «بوعمامة مرورا بالطاكسي المخفي ثم امرأة أخرى وكرنفال في دشرة» ظلت من أهم الأعمال الفنية التي أبدع فيها أيما إبداع، تقمص من خلالها شخصيات متعددة بكاريزمات متباينة، ليس بالأمر السهل التفاعل معها، إلا إذا اجتمعت في نابغة وقامة لا تتكرر بحجم عثمان عريوات.
كنت شاهدا حين رفض عريوات تكريمات أشرفت عليها وزارة الثقافة من خليدة إلى ميهوبي، ورفض حتى دعوة حضور أنشطة أقيمت لحفظ ماء الوجه لهذا الرجل، رفض محاولات سابقة لتكريمه، خاصة من جهات كانت أول من أساءت إليه ومنعته من تحقيق أبسط الأشياء التي دعا إليها كمبدع بل رافع من إجلها بحكم إنه ظاهرة لن تتكرر.
أتذكر أنه روى لي بعض تفاصيل الجزء الثاني من فيلم كرنفال في دشرة، الجزء الذي لم يكلف الخزينة العمومية ولا خزينة التلفزيون شيئا مقارنة بالإنتاج الرديء، الذي يتم عرضه على الشاشة الصغيرة في رمضان وقد خصّصت له مبالغا مالية معتبرة جدا، روى لي سيناريو الجزء الثاني عند استقباله في بلاطو القناة الفرنسية، يصوّر فيه حفل توأمة بين بلديتي أم الشلالق وباريس، لو تحقق بث ذلك الجزء لما كنا في حاجة إلى الدعوات المستمرة لمطالبة فرنسا بالاعتذار عن جرائمها في الجزائر وكان ذلك الفيلم قد كفى ووفىّ.
التكريم.. خطوة لترسيخ ثقافة العرفان بالجميل تجاه أي شخص مهما كانت مكانته، تكريمهم وهم على قيد الحياة اعتراف بصنيع الرجال، ليس لأنه عريوات أخ الشهداء الثلاثة والمجاهدين، بل لأنه الظاهرة التي لن تتكرر في المشهد الفني والسينمائي في الجزائر، وبعد التكريم ننتظر منحه كل الامكانيات وتهيئة الظروف للإشراف على تكوين الأجيال، لينهلوا منه ما يستطيعون من إبداع لن يجدوا مثله في معاهد التكوين ولو اجتمعوا قاطبة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19634

العدد 19634

الأربعاء 27 نوفمبر 2024
العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024