بخطى ثقيلة كان يتمشى الهوينا في رواق طويل، يفصلني عنه باب ظاهره زجاجي وباطنه من عاج، ظلّت عيناه ترمقني من مدخل الرواق وأنا ألج مقامه الزكي للتوه، كانت ذبذبات موسيقى الهاتف تثلج صدره، وهي معزوفة اخترتها نغمة تنذره بأن المتّصل أنا، وكلّما نبضت حروف اسمي شاشة هاتفه يرد مباشرة دون أن ينظر من المتّصل، لست أدري كيف قادتني قدماي إلى منطقة الموت، لم أسمع رنين هاتفه، لكن ملامحه سبقت شفاهه وأطلقت وجنتاه ابتسامة مهرّبة من زمن الكورونا.
صديقي احمد لم يكن طبيبا فقط، ولم يكن كغيره من الأطباء مغرما بلغة بودلير وت.س اليوت، ولم تكن العربية أبدا عقدته بالرغم من أمازيغيته المبهرة جدا، بل كان سيبويه لغة، وعازفا لكل الآلات الموسيقية، لكنه أحبّ العود كما أحبّ مهنة الطب،وكلاهما يشتركان في نبض واحد، أعرفه لأكثر من عشريتين وأذكر جيدا إنّني كنت أقضي بعضا من ليالي المهرّبة زمن الإرهاب في غرفته الصّغيرة المتواضعة، هي ليست سكنا ترقويا أو اجتماعيا، مجرد غرفة للمناوبة يتناوب عليها كل أطباء القسم بالمستشفى الجامعي، وفي الكثير من المرات لا ينام في السرير إلا دقائق لماما، فحالات الاستعجالات في الجراحة لا تتوقف.
في تلك اللّيلة المشؤومة من سنة 1994، فجّر الإرهابيّون فندق «إنجلترا» بشارع الشهيد مصطفى بن بولعيد بالجزائر الوسطى، على مرمى الجهة العليا من الطريق المقابلة لفندق السفير، لم يتبق منه أي أثر اليوم، كأنّ الأرض ابتلعته واستوت على الجودي، وهوى كما تهوى الرّهينة بين مخالب الإرهابيّين في حاجز مزيف.
في نفس التوقيت تهتز الأرض من تحت أقدامنا، وكان الحظر الشامل على الساعة السادسة مساءً، لم تكن مناوبته في تلك الليلة، كنّا نجابه الموت بمعزوفات موسيقية، وكنت أردّد على أسماع الحضور أغاني كوكب الشرق، ويسبقها بلعبة أنامله لتتراقص الأوتار قبل أن تسقط الأنفس المشتاقة إلى لحظة فرح مهرّبة، وفي الكثير من المرات كان يلح عليّ إعادة أغنية «فاتت سنة» لميادة الحناوي.
أتذكّر أنّ الأرض اهتزّت على وقع الانفجار وسمعنا دويّا قويّا رجّت له العمارات المقابلة، ودقائق بعدها زلزلت الأرض زلزالها، وبدأت صفّارات الشّرطة والحماية والإسعاف في نقل الجثث والجرحى، وأتذكّر أنّ أغلبهن من الفتيات، جثث تفحّمت وأجساد بترت أطرافها، لم أعد قادرا على النّظر في تلك المشاهد المشوّهة، تشبه أفلام الرّعب عاشها الجزائريّون بكل قسوتها، فمكثت غير بعيد في تؤدة وذهول، هل ما رأيته حلما أم صناعة هوليودية؟ بلى إنّهم يزفّون إلى أقدارهم جماعات وفرادى.
في هذه الأثناء، كنت أنظر إليه وعادت بي أدراج الرواق لنفس المشهد، اقتربت من الباب، لكن أحدهم أمرني بالتوقف والعودة من حيث أتيت، لمحني احمد فبادلني التحية بيد من سلام، والأخرى عاجزة عن الكلام.
لم يكن في حاجة ليشرح لي معاناته مع الحجر في المشفى بعيدا عن أسرته وأهله، لكنّني أدركت أنه يعاني في صمت لأن العدو اليوم بين الأسرة التي يشرف على مرضاها ولا مفر له، إلا الاستسلام الوديع، عيناه كانتا تقولان الكثير، لم يبح بذلك لكنني قرأت ما في أعماقه من ألم وموت يترصّداه بين الفنية والأخرى، كما عرفت من ملامحه بأنّه مستاء من ما يحدث في الشّوارع من تسيّب ولامبالاة، وسؤاله هل يكتب الله له الحياة مجدّدا من وباء كورونا بعد أن نجا من شراسة الإرهاب؟