عاشت دولة مالي، الجمعة الماضية، ما يشبه الانقلاب العسكري الفاشل، حيث سيطر المحتجّون على البرلمان وأحرقوا واجهته، واقتحموا مقر التلفزيون الرسمي وأوقفوا البث، كما طوّقوا عددا من الطرق والجسور الرئيسية، وحاولوا اقتحام قصر الحكومة، وكلّ هذا من أجل المطالبة برحيل الرئيس أبو بكر إبراهيم كيتا الذي أخفق، بحسبهم، في تقديم حلول لمشاكل البلاد الأمنية والاقتصادية، وفشل في تحسين أوضاع الشعب المالي الذي يواجه مذابح الإرهاب وشظف العيش في واحدة من أفقر دول العالم.
وإذا كانت القطرة التي أفاضت كأس غضب الماليين الذين يهزّون شوارع العاصمة باماكو يعود إلى ما يعتبرونه تزوير نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في مارس وأفريل الماضيين، إثر تدخّل المحكمة الدستورية التي ألغت فوز عدد هام من المعارضين، فإن أسباب الرّفض المتزايد للرئيس كيتا كثيرة ومتباينة وهي كما يقول: «حراك 5 جوان» الذي يقود الاحتجاجات، تتحدّد في سوء إدارته وفشله في تسوية الأزمات المختلفة التي تشهدها البلاد سواء على المستوى الأمني، السياسي، الاقتصادي أو الاجتماعي، فبعد سبع سنوات مازالت مالي – كما تقول المعارضة – تعاني من الأزمة الانفصالية في الشمال والتي تسبّبت في انقلاب عسكري أطاح في 2012 بالرئيس أمادو توماني توري، وحتى اتفاق الجزائر للسلام والمصالحة، الموّقّع عام 2015، لم يتم تنفيذه ما أبقى البلاد في دوّامة الانقسام وعدم الاستقرار الذي انعكس سلبا على حياة الماليين الذين شهدوا في الأشهر الماضية تناميا مريعا للعنف العرقي.
ومن بين العوامل الهامّة الأخرى التي أخرجت الشعب المالي إلى الشارع للمطالبة برحيل كيتا، هو الرّفض المتزايد للتدخّل العسكري الأجنبي في البلاد والذي تقوده فرنسا من خلال عملية «سرفال» ثم «برخان»، فهذا التدخّل - بحسب الماليين - لم يحقّق المكاسب المنشودة على الأرض، بل على العكس تماما، حيث ارتفع مستوى الخطر الإرهابي إلى عنان السّماء، وتمدّدت جغرافيته إلى باقي دول الساحل الإفريقي، وإن تدخل فرنسا - كما أصبح جلّ الماليين يعتقدون- لا تحكمه إلاّ رغبة جامحة من باريس في جعل مالي قاعدة لتنفيذ أجندتها بمنطقة الساحل، والتي تتضمن استخدام قواتها العسكرية للتدخل في الصراع الليبي والسعي لتحقيق مكاسب اقتصادية من خلال توفير استثمارات للشركات الفرنسية؛ حيث منحت الأمم المتحدة عدة عقود بقيمة 34.7 مليون أورو للمجموعتين الفرنسيتين «تاليس»، «ورازل بيك»، وذلك لأعمال البنية التحتية في شمال مالي خاصة في مدينتي كيدال وغاو، وهو ما يجعل بقاء القوات الفرنسية مهمًّا لباريس لحماية شركاتها.
في الواقع، العوامل التي تلهب الشارع المالي كثيرة، لكن ما يجري هناك من توثر يثير بالفعل الذعر للجوار وللمنطقة بأسرها، خشية أن ينزلق الوضع إلى صراع يزيد من تعقيد المشهد الأمني وتغوّل التنظيمات الإرهابية، وما يترتّب عن ذلك من زيادة في عدد النازحين واللاجئين والمهاجرين والمآسي الإنسانية.
في الواقع الرئيس كيتا فهم رسالة الشعب، وأدرك الخطر الذي يحوم بالبلاد، لهذا بادر إلى مدّ يده للحوار مقدّما بعض التنازلات كحلّ المحكمة الدستورية، لكن يبدو بأن هذه التنازلات عاجزة عن إزالة الانسداد خاصة مع إصرار قادة الاحتجاجات على رحيله، الأمر الذي يجعل تدخل طرف ثالث للتوسّط وإيجاد مخرج توافقي للأزمة السياسية حاجة ملحّة حتى لا تعود دولة مالي إلى مربّع الاقتتال وسفك الدماء، وحتى تتجنّب المنطقة تصعيدا آخر، إذ يكفيها الأزمة الليبية التي تكبر ككرة اللهب مهدّدة بحرق الجميع.
ويبقى الحوار والتفاهم الطريق الأقصر لحلّ كل المشاكل.