كلّ يوم موعدٌ مع الأسرى هنا صوت فلسطين يصل إلى القدس والأسرى” ليكون لهم بمثابة رسالة منهم إلى من يهمّه الأمر، نضعه كالضمير أمام ضميرهم، ضميراً واضحاً كالليل ومثله ساتراً غير مستتر، نخِزُ بضميرهم كلَّ الضمائر، ونخدش باسمهم كلَّ الأسماء، ونضعهم ساريةً على بؤبؤ العيون ونحاصرُ بهم جلاديهم والنسيان، فلا نامت أعين الغافلين عن آلام المأسورين، الذين يدفعون ضريبة الحرية بالنيابة عن الوطن وكلّ الشعب، رغم أنّ الضريبة هنا فرض عين، وقد ارتضينا أن يكون حظنا منهم أن نجعل ضريبتهم علينا فرض أن نصرخ هنا بصوتهم ونفضح ما حرص ليل زنازينهم أن يخفيه في قيود الصّمت والسكون والخفاء والنسيان، كلّ يوم، نصرخ باسمهم أحدٌ أحد.
نصّ لأَسْرى الحُريّةِ..الشهداء مع التنفيذ..
شكراً للجزائر أُمّ الشهداء وحاضنة النّهار
نتوجّه باسمِ الأُمّةِ من مائِها إلى مَوجِها، وباسمِ شَعبنا في مخيّماتِ شواهدِ الإثبات، وباسم الأقصى والجرسيّةِ، والشهداءِ الأحياءِ والجرحى الأولياءِ، وباسمِ الشرفاءِ..ومِن ساحات الوطن الذي كسرَ بقبضته الهواءَ الفاسدَ وقهرَ العنصريةَ والأبارتهايد، ومن تلالِ البلاد، على بُعْدِ قُبْلةٍ من القدسِ العاصمة، وعلى مَرمى وَردةٍ من يافا، ومن ساحات غزّةَ هاشم، أُمِّ الأساطيرِ التي لا تموت، نتوجّهُ إلى الجزائر البطلة أُمّ الشهداء والتلال النابضة بالحياة، حاضنة النّهار والبطولات العبقرية، على وقفتها المتواصلة والأكيدة مع شقيقتها فلسطين، وعلى احتضانها الملف الفلسطيني بكلّ مكوّناته الرجراجة، وتبنّيها لقضايا أسرى الكرامةِ؛ أرواحِ الأرضِ، أنبياءِ الصبر، الذين أرجعوا لنا مرايا الجبّارين وفجرَ العماليق، وزاوجوا بين الوّترِ والعرين، وأعادوا الزغاريدَ إلى الأرجوان.
نقول للأسرى: إذا خُلِق السجنُ لكم فقد خُلِقتُم للحريّة. وسلامٌ على جوعِكم المقاتلِ، وعلى عطشِكم الجليلِ، الذي تدافعونَ به عن فلسطين، البعيدةِ عن خطوطِ السُّوءِ والهزيمةِ واليأسِ والانقسامِ المشبوهِ، وتواجهونَ به الجِهويةَ والحزبيّةَ والحرائقَ وانغلاقَ السُبُلِ والضُّمورَ والتعويمَ..وتقفونَ في وجهِ العَبثِ الاحتلاليِ الذي يسعى إلى تفريغِ الحركةِ الأسيرةِ من مضامينِها ومحتواها الوطنيِ والإنساني.
سيأتي البحرُ ليملأ ضلوعَكم، لتظلّوا زَخمَ الرَّعدِ، والبرقَ المُختَزِنَ في غيومِ السماء..حتى تبقى المعتقلاتُ قِلاعاً، إلى أن ينشقَّ البابُ ويدخلُ النّهار، ولترجعَ الحركةُ الأسيرةُ إلى سَبيكَتِها الذهبيّة، تحفظُ مُنجزاتِ الشهداءِ والمناضلين، وحتى لا نستمرئ السّكينَ على رقابنا، أو يشحذونَها على عظامِنا. نقولُ لكم: لستُم وحدَكم! إنَّ أمّتكم وشعبَكم يتنفّسُ في ظهورِكم، ومعكُم المآذنُ والأسوارُ والأجراسُ والرُّضّعُ والهتافُ والمعابدُ والأغاني. تتربّعون الآن على سِدَّةِ الخلود، في كَعْبةِ الأقوياء وكَرْنَكِ الأشدّاء، ترسمون صورةً بالأمعاء اللّاهبةِ، والماءُ يبحث عن الظمآنين.
ستقهرون الفاشيةَ والسّاديّةَ، ففي صوتكُم دماءُ الشهداءِ وصراخُ الجرحى ونداءُ الأُمّهاتِ وحِراكُ الميادين وجرأةُ الموسيقى وطيورُ النار. أيّها الأسيرُ، يا ابنَ الناياتِ والشَّجنِ، ويا زهرتَنا الزجاجيةَ وشمعتَنا البابليةَ، يا ابنَ البدايةِ التي لا تنتهي، يا سيّدَ الأعراس، ونشيدَ المتراس، يا عسلَ الأعرافِ الرَّانخةِ على رِقابِ الخيولِ الوحشيّةِ، يا انفجارَ الربيعِ وعاصفةَ السنبلةِ، يا بُخارَ جراحِنا ويا خُبزَنا الجَمريّ، سيقرأ عميد الأسرى المتكاثر حروفَه المأنوسةَ، وسيرفعُ النَّرجِسةَ إلى المُلصقِ، وسيسعى إلى الضوءِ المُشِّعّ والكتابِ القويم وإلى النسَغِ المخبأ في الجذور، وسيرمي الماسةَ بين الرّحى، حتى يرتجَّ المعدنُ وتتوالى فيه البراكين، ليبلغَ الكَشْفَ..ومع صموده وجُوعِه سيبدأ يومٌ جديد، وهو على صوابٍ إذ يقدِّمُ كلَّ شىءٍ من أجل الحرية، ويمهِّدُ لمنظرٍ ورديٍّ للزمنِ الآتي.
أيّها الأسيرُ! يا أيقونتَنا المخبّأة مثل شمسِ الغَسَق! إنّ إرادَتكم هي إرادةُ النّصر الأكيد. وإنْ رفَضَ السجّانُ مطالبَكم الإنسانية العادلة وانتهاك حقوقكم، يؤكّد زيفِ احتكاره لصورةِ الضحيّة، لأنّه الجلاد بامتياز. وليرى العالمُ جرائمَ هذا المحتلّ، حتى لا يظلّ البعض خاضعاً لابتزازه، أو مصدّقا لدعاويه الملفّقة التي تحارب كلّ ما هو بريء، وتحرق كلّ ما هو طفل، وتمنع كلَّ صلاة لله. فهل آن الأوان للعالم لأن يُعيد هذا القاتلَ إلى أقفاص المحاكمة، لما يقترفه من إرهاب منَظَّم، يطال الحياةَ ويلوّثُ المعايير البشرية والمواثيق الدولية.
أيُّها الأسرى !
سيشربُ قَرنُ الغزالِ من رِيقِ صخرِكم، ويطلعُ الزَّعترُ من ملحِ نارِكم، وسيأتي الفجرُ من رَنَّةِ الصحونِ الفارغةِ على رفوفِ الصدى. إنّ شرارةَ صمودكم الفذّ المتواصل في وجه إدارة السجون الفاشية، ستقودُنا إلى السَّرْجِ من جديدٍ، وستؤَصِّلُ لطوفان الحُريّةِ المُشرعةِ، ولن نصعدَ، ثانيةً، إلى الجُلجلةِ، وسنفرشُ دربَ ألآمِكم بالشقائقِ والحَبَقِ، وسترفعُ الشرفاتُ مناديلَها في زفّاتِ القمرِ الطليق.
أنتم لَحمُ الشمسِ ونبضُ البركانِ ورجّةُ الغناءِ الذي سيلدُ البقاءَ. نقول لجلّادِكم، الذي يَسجِنُ حتى الجثثَ، في مُدنِهِ الجهنميّةِ وباستيلّاتِه البربريّة: كِلانا، أيّها المُحتلُّ يعرف الموتَ، لكنَّ واحداً منّا يعرف الحياة. إنّه الأسيرُ! الذي لن يسمحَ لِزَمَنِكُم لأنْ يقدَّ أثوابَه السوداءَ من أعمارنا..فهو على يقينٍ بأنّ كلَّ هذه الآلامَ ستصبحُ حريةً، وإنْ اقترفتم ألفَ مذبحةٍ في العيد.
^^^^
ونقولُ لأبناء شعبنا الأسرى والمعتقلين، في مدن الحصار وقرى الانغلاق ومخيّمات الأصفاد، إنّ هذا العُرْسَ الصوفيّ والأَلَقَ الخارقَ لا يكتمل إلا بالتحامِكم، وأنتم في حَمْأةِ المذبحة، ومع المُضربين عن الذّلِ، على بُرْشٍ واحدٍ، يحتلّ مساحة فلسطين، في العتمات المقيّدة.
نرجو أن تُعلنوا انضمامَكم فوراً إلى هذه الملحَمة الفارِقة، ولا تتركوا خاصرةَ البلاد مبذولةً للطعنات والتطهير العرقي والشطب المخيف. ونتمنّى على العالَم ومؤسّساته الحقوقية والإنسانية أن يُعيدَ للسيدة العمياء، العدالةِ، بصرَها وبصيرتَها، حتى لا يظلّ القاتلُ دون مساءلةٍ وحساب.
^^^^
عندما لم يكن في الأعالي سماءٌ، ولم يكن في الأسفلِ أرضٌ..لم يكن في الوجودِ سوى ضُوءٍ يتوهَّجُ بين الملحِ وبين الماءِ، ليواجِهَ البَطْشَ والعنكبوت، عندها وُلِدَت الكرامة وجاءَت الحريّة، وكانتِ الأسطورةُ التي مات فيها الغولُ وغابَ السُّكوت.
^^^^
وهنا نشكرُ كلَّ الذين تضامنوا، وما زالوا يقفون بجسارة ورحْمةٍ، في كلِّ الدنيا، مع غزّة وفلسطين والأسرى. ولتتعاظمَ تجلّياتُ المساندةِ في كلّ الجهات. ونعلن هنا، أنّ الأُمّةَ والشعبَ والبيوتَ والقبابَ، والزيتونَ المُستوي على عَرْشِه الأبديِّ، وهي تتماهى مع جُمْوعِ الشّعب، تقبضُ على جَمرةِ الثوابت الوطنية، وتؤكّد على حقوقنا غير القابلة للتصرّف، وكلُّنا ثقةٌ بأنَّ شعبَ فلسطين الخالد سيبقى حارساً أميناً، حتى تنقشعَ المَظْلَمةُ الهوجاءُ، وينأى آخرُ احتلالٍ عن أرضنا، وتنفتحَ أبوابُ القلب، ونعبرَ من رِبْقةِ الحسرات، إلى فضاءِ فلسطين الوهّاجِ بالألوان..
وستكون أيادي الأسرى تتشابك مع أذرع أبناء العروبة من الماء إلى الماء..أقواساً للغارِ وشبابيكَ للحياة، التي سنعبرها، غير منقوصين، بكاملِ الحرية والكرامة.
أيها الأسرى ! لم يكن بينكم وبين الرّمز مجازٌ، لهذا لن يكون بينكم وبينه حِجاب، فهو الذي يرى الجنَّةَ في الصّحوِ والمَنام، ويجعل من دخانِ الماءِ غيمةً تُثير الخشوع. قمرُهُ ساخنٌ، وهو في كلِّ الجهات. وذكرياتُه لن تحرقَها المسافاتُ والزنازين، وهو الذي اجترح عشقَ المستحيل، وأثارَ القشعريرةَ في الحديد.
قد يتعب المحيطُ، لكنَّ الأسرى لا يتعبون! إنّهم يرسمون السماءَ ثم يهبطون بها إلى الأرض، يُرَوّضون الهواءَ المتوحّش ويحبّون فلسطين، وحكمتُهم البالغةُ تقول: إنَّ ما يريده أيُّ دمٍ هو ألّا يُسْفَك، ومن الدمِ يأتي دمٌ جديد. ستظلّ عيونُ الأسرى تلتمعُ وسط الظلمةِ، سيضربون بالرّعدِ، وستتألّقُ وجوهُهم مثلَ نارٍ تتأجّج، كلماتُهم حيّة، وقد كتبوا شغفَهم على قُمصان السَّحاب، ونقشوا انتصاراتِهم على حيطانِ الهواء، فلتأخذُهم الوردةُ نُسوراً إلى الشمس، ليظلَّ مجراهُم سماوياً، ويبشّرونَنا بالخلاص، وعندها سنطلقُ الحَمامَ وندحرجُ الرّمانَ المصهورَ، وننتحبُ من عطشِ العشقِ السرمدي. عاشت الجزائر، وعاشت فلسطين وعاش اسمُها الجديد: أسرى الحرية، وعشتَ أيُّها الكبشُ المُكحَّلُ، أيُّها الصامدُ الجَسور، فالنّصرُ لك.