في لحظة غير مسبوقة في تاريخ الفن السابع، تحوّلت قاعة مهرجان البندقية السينمائي إلى مسرح إنساني مفتوح على العالم، حين وقف نجوم هوليوود وكبار صناع السينما الدولية وصفقوا أربعًا وعشرين دقيقة متواصلة لفيلم مؤلم ومضيء في آن، يروي حكاية الطفلة الفلسطينية الشهيدة هند رجب.
كان المشهد مهيبًا إلى حد أن التصفيق لم يكن مجرد تقدير لعمل سينمائي، بل أشبه بجنازة جماعية تقف فيها البشرية احترامًا لبراءة ذُبحت تحت وهج القنابل، ورسالة تضامن تعلن أن الدم الفلسطيني ليس صامتًا حتى لو صمتت السياسة.
الفيلم، الذي جاء كوثيقة بصرية حارقة، استعاد تفاصيل اللحظات الأخيرة من حياة الطفلة هند، وهي تنادي بلا جدوى فرق الإسعاف بعدما أبيدت عائلتها أمام عينيها في سيارة نجاة تحولت إلى فخ موت. تلك المكالمة المقتضبة التي بثتها وسائل الإعلام، والتي دوّت فيها صرخاتها المرتعشة، صارت محورًا للفيلم الذي نسج من وجعها أسطورة إنسانية يتردد صداها أبعد من حدود غزة، حتى وصلت شاشات أعرق المهرجانات العالمية.
لم يحتمل كثيرون في القاعة المشهد، فبكى ممثّلون عالميون أمام الكاميرات، وانحنى مخرجون كبار احترامًا لصوت طفلة لم يعمر طويلًا لكنه اخترق صمت العالم. وقد بدا التصفيق الطويل، وهو الأطول في تاريخ المهرجان، إعلانًا عن انتصار الذاكرة الإنسانية على آلة الحرب، ودليلًا على أنّ الفن قادر على إحياء الضمير حيث تفشل المؤتمرات والقرارات.
هذا التفاعل الاستثنائي كشف عن مفارقة صارخة: ففي الوقت الذي تحاول فيه بعض المنابر الغربية تبرير الجرائم أو تلطيفها بلغة سياسية باردة، جاءت السينما لتصرخ بوجه الجميع، مؤكّدة أنّ العدسة الصادقة أكثر بلاغة من آلاف التصريحات. لقد تحوّل اسم هند رجب إلى رمز عالمي للطفولة المهدورة، وصار تصفيق النجوم أشبه باعتراف كوني بأن دماء الأبرياء لا تُقاس بميزان السياسة، بل بميزان الضمير.
أما على مستوى ردود الأفعال، فقد انتشر المشهد كالنار في الهشيم عبر وسائل الإعلام العالمية ومنصات التواصل الاجتماعي، ليشعل موجة نقاش سياسي وإعلامي واسعة. بعض الأصوات اعتبرت أن هذه اللحظة تمثّل «محاكمة صامتة» للسياسات الغربية التي تغضّ الطرف عن المأساة الفلسطينية، فيما رأت أخرى أنّ السينما أعادت الاعتبار لفلسطين في الوعي الجمعي العالمي بوسيلة أبسط وأصدق من أي بيان دبلوماسي. وذهب محلّلون إلى القول إن تصفيق البندقية سيكون له أثر أبعد من الفن، لأنه أحرج الحكومات أمام شعوبها، وكشف أن الضمير الشعبي بات يتقدم بخطوات على الخطاب الرسمي.
أما انعكاسات هذا الحدث مستقبلًا فقد بدأت تلوح في الأفق، إذ يُنتظر أن يفتح الباب واسعًا أمام حضور القضية الفلسطينية في المحافل الثقافية والفنية الكبرى، ويحفّز مخرجين عالميين على تحويل المأساة إلى أعمال فنية تكسر طوق الصمت الإعلامي. كما أن هذا الإجماع الفني العالمي قد يشجع المثقفين والحقوقيين على إعادة إدراج فلسطين في جدول أولويات النقاشات الإنسانية بعيدًا عن الاصطفافات السياسية. ومن غير المستبعد أن يتحول فيلم هند رجب إلى مرجع بصري للأجيال القادمة، يدرّس في الجامعات ويعرض في المنتديات الدولية كوثيقة إدانة وإضاءة في آن واحد.
لقد أثبتت تلك الليلة أنّ للفن قدرة على إعادة تشكيل الوعي الجماعي، وأن قضية فلسطين ليست مجرد ملف سياسي بل جرح مفتوح في الضمير الإنساني. وما أطول تصفيق البندقية إلا مؤشر على أن صورة الطفلة هند رجب ستظل حاضرة في الذاكرة العالمية، تدفع بالمزيد من الأصوات الحرة إلى كسر جدار الصمت، وتمنح القضية الفلسطينية مكانًا أوسع في وجدان العالم.