طباعة هذه الصفحة

صـوت الأسيرات من الدامون:

شهادات منسية خلف قضبان القهر

تقرير: نور يحيي إسليم
شهادات منسية خلف قضبان القهر
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

بين جدران سجن «الدامون» الصهيوني تقبع عشرات الأسيرات الفلسطينيات في غرف وزنازين باردة قاسية، لا تعرف الرحمة ولا العدالة. لكل واحدة منهن قصة تستحق أن تروى، ووجع يستحق أن يُسمع

لسن مجرد أرقام في لوائح الاعتقال، هن أمهات وطالبات، ومحاميات وطبيبات وجدات، وقاصرات وأمهات أسرى، ومناضلات من الميدان والبيت والمستشفى والجامعة. في هذا السجن الذي تحاصره الروايات السوداء والانتهاكات المتكررة، يُنتزع من الأسيرة كل شيء: حريتها، كرامتها، وأحيانا صحتها وحياتها. بعضهن اعتقلن بعد اقتحام منازلهن فجرا، وسط رعب الأطفال وصراخ الأمهات.
أخريات اختطفن من الشوارع أو المعابر أو حتى من بين أروقة المشافي. تسحب الواحدة منهن مكبلة اليدين، معصوبة العينين، إلى التحقيق العسكري القاسي، حيث يبدأ فصل آخر من الانتهاك: شتم، تهديد، حرمان من النوم والطعام، وعزل لساعات أو أيام طويلة. داخل الدامون، لا فرق بين شابة جامعية تحلم بمستقبلها، وأم مرضعة تنتزع من طفلها الرضيع، أو امرأة مسنة بالكاد تقوى على السير، أو طبيبة أُخذت من عيادتها. السجانة لا تسأل عن العمر، ولا عن الدور، ولا عن المرض وإنما تمعن في إذلال الجسد والنفس بلا استثناء. ورغم هذا العتم تحتفظ كل واحدة منهن بوهج خافت من الصبر والصمود. هذا التقرير يسلط الضوء على معاناتهن ويفتح نافذة نطل منها على قصصهن واحدة تلو الأخرى لنرويها للعدالة ولمن لا يزال له قلب.

نساء من نار وحديد: صرخات من سجن الدامون

وسط هذا السواد الممتد في سجن الدامون، تتفرع الحكايات وتتناثر كأزهار برية تنمو من بين شقوق القيد، لكل أسيرة روايتها التي لا تشبه الأخرى لكن جميعهن يلتقين في وطن يولد في القلب وفي حرية لا تقاس إلا بالكرامة. نبدأ بسرد الحكايات والقلب على كل واحدة منهن.

فاطمة منصور :
 أمٌّ تصنع من وجع الأسر قصيدة حب لأبنائها ووطنها

من قرية بدّو خرجت فاطمة عبد الفتاح منصور لتُربّي أبناءها السبعة على حب الوطن، فإذا بها تُعتقل ذات فجرٍ من نيسان، تاركة خلفها قلبًا موزّعًا على سبعة وجوه، وبيتا فارغًا إلا من الحنين. تنقّلت بين مراكز التحقيق في أريئيل والهشارون، قبل أن تستقر جسدًا لا روحا في سجن الدامون، غرفة رقم 6 إلى جانب بنان وشهد.
هي خريجة «أمن معلوماتي»، لكنها اليوم تعيش في أمن الغياب. تُنادي باسم «أم أنصار» وكأنها تستدعي ابنتها الكبرى لتلم شتات الوقت، وتبارك لسميرة عقد قرانها من خلف القضبان، وتضم محمد في المنام، وتستبقي كلمات سوار الصغيرة كزادٍ في المحنة: «إن علمنا الحكمة نشكر، وإن لم نعلمها نصبر». تحلم أن تحفظ فلسطين قصيدة حريتها، وتنتظر أن تعانق وتين وجولان، عناقا يشبه الصلاة. في منامها رأتهن حاولت أن تضمهن، لكن الضابط منعها وبكت كثيرا، تعاني من حساسية جلدية خسرت من وزنها، عانت من نقص الملابس والخصوصية، رغم الوجع، في صوتها دفء أم، وفي كلماتها ما يشبه الدعاء المؤجل.

 ميسون مشارقة :
بين جدران الدامون أم تنسج من الشوق حكايات صبر

اعتقلت ميسون محمود مشارقة (مواليد 1971) من الخليل، وهي أم لسبعة أبناء ومديرة روضة أطفال، في الثاني من نيسان 2025. قضت أكثر من أربعين يوما في «المسكوبية»، منها 22 يومًا في العزل، قبل أن تُنقل إلى «الدامون»، حيث تقبع في غرفة مكتظة. تعاني من قلة النظافة وسوء التهوية ونقص الصابون والفوط، وتبتكر مع الأسيرات ما تسميه «صناعة الدامون الوطنية» لخياطة الثياب من الأغطية البالية. تشتاق ميسون لأطفالها، تبكي حين تتذكر عبارة ابنتها زينة: «ماما احضنيني وأنت ساكتة»، وتشعر بالحزن لغيابها عن مناقشة تخرج ابنها زيد، وتنتظر أخبار ولديها المغتربين. رغم الألم تحتفل بأي خبر سعيد، وتحلم بليلة «حنّة» خلف القضبان.

أسيل حماد :
 لمــاذا أنــــا محبوســة؟

اعتقلت أسيل عبد الكريم حماد (مواليد 1991) من بلدة بيت فوريك بتاريخ 3 جوان 2025، أثناء عودتها من زيارة عائلية، وأمام عيني طفلتها إيلياء التي «بكت بصمت في السيارة».
اقتيدت إلى تحقيق حوارة، حيث احتجزت في زنزانة تحت الأرض مليئة بالحشرات و»جرذ كبير»، ثم نُقلت إلى «الشارون» ومنها إلى «الدامون». تصف أسيل ظروف سجن الدامون بأنها عقوبات جماعية ومزاجية: «إذا ضحكنا نعاقب، وإذا سكتنا: ليش ساكتات؟» تعاني الأسيرات من الرطوبة العالية والطفح الجلدي، وتفتقدن لأبسط الحقوق. رغم ذلك، ترسل أسيل رسائل حب لابنتها وزوجها، وتقول: «بنات الدامون قويات، وما حدا يخاف علينا». لكنها تختم بسؤال يلاحقها منذ لحظة الاعتقال: «ليش أنا محبوسة؟»

أماني النجار :
صمود امرأة تُعلّم خلف القضبان

من مقاعد التدريس في بلدة يطا، إلى غرفة في سجن الدامون، اعتقلت المعلمة أماني النجار (مواليد 1984) بتاريخ 26 فيفزي 2025، لتصبح أول امرأة تعتقل من مخيم الفوّار. اقتيدت من حاجز «زيف» إلى «المسكوبية»، حيث أمضت 22 يومًا، ثم نقلت إلى «الشارون» فـ»الدامون»، حيث تقبع اليوم في غرفة مكتظة مع عدد من الأسيرات. تعاني أماني من مرض جلدي معدٍ انتشر بسبب غياب التهوية والنظافة. تصف «الفورة» بأنها لحظة سريعة بين توزيع الطعام والدواء والعودة مكبلات. أما عن الطعام فتقول: «اليوم نص معلقة لبنة لكل صبية»، في إشارة للجوع والإهمال.
ورغم القهر، تحتفظ أماني بالدفء، برسائل من زوجها وأختها، وبحبها لوالديها، وتُرسل سلامها لبيتها الذي تقول عنه: «موجودة ولا مش موجودة لازم يظل مفتوح». تستذكر أبناءها كأنها تلمس وجوههم: سلسبيل، محمد، محمود، حمزة، ورهف...وتهمس: «كل واحد منهم إلي فيه حياة».

سلام كساب :
من خرم الجدار نتنفس

في ليلة حالكة من جوان، اعتقلت الطالبة الجامعية سلام كساب (19 عامًا) من بلدة قريوت جنوب نابلس. كانت تتهيأ لامتحاناتها حين اقتحم الاحتلال منزلها، ليبدأ فصل من التنقل بين حوارة وسالم والجلمة، وصولا إلى سجن الدامون، حيث تقبع اليوم في غرفة رقم 2. تقول إن أصعب لحظاتها كانت في «هشارون»، ورغم أنفاسها المختنقة وسط غرف رطبة خانقة بلا تهوية، ما زالت تبحث عن «خُرْم بالجدار تتنفس منه».
سلام تحنّ لقهوة كانت تعدها لأهلها بحب، وتتمنى أن تعود لتشارك أفراح أختها أريج، وخديجة، ونتائج شقيقها خالد. تصلي جماعة، تؤمّ الأسيرات بقيام الليل، وتشدّ على قلبها: «أنا منيحة، وقوية، وإن شاء الله بطلع مع خالي». وفي رسالتها الأخيرة، تطلب «شال، وبوت، ولبسة حلوة» ليوم الحرية، لأن الاحتلال صادر كل شيء إلا الحلم.

 شيرين الحمامرة :
أنا أخت عز الدين ولا أبالي

من قرية حوسان غرب بيت لحم، اقتيدت الأسيرة شيرين الحمامرة (مواليد 1980)، خريجة الكيمياء، من منزلها في 17 جوان 2025، بعدما صودر قوت عائلتها بحجج أمنية، وعُصبت عيناها وقُيّدت في رحلة اعتقال شاقة بين عصيون والمسكوبية والشارون وصولًا إلى سجن الدامون.
في غرف السجن اشتد عليها القيد حتى فُكّ إصبعها، ووصفت الرعاية الطبية بمرارة: «حرّكي إصبعك!». اليوم، تشارك غرفة رقم 5 مع رفيقات وجعها، وتصف الحياة خلف القضبان بأنها كابوس يومي: انعدام الخصوصية، طعام سيء، اقتحامات، وحرمان من الضوء. رغم الظلمة، تستمد القوة من صورة أخيها الأسير عز الدين، وتقول: «الحمد لله إنو الحبسة إلي، مش لوحدة من خواتي»، مضيفة «أنا قوية أنا أخت عز الدين..ولا أبالي».

 بشرى قواريق :
خلِّيهم يجهّزوا للعرس

كانت بشرى قواريق (مواليد 2005 – عورتا، نابلس) تحضّر لزفافها حين اقتحم الاحتلال منزلها ليلة 27 أفريل 2025. صادروا فستانها ومزّقوه، واستخدموا قطعة منه لتغطية عينيها أثناء الاعتقال.
اقتيدت من «بيجامتها» إلى أريئيل، ثم هشارون، فتعرّضت لتفتيش مهين وأصيبت بحساسية جلدية بلا علاج. وصلت إلى سجن الدامون حيث تعيش اليوم ظروفا قاسية: طعام سيئ، غرف مكتظة، غيارات قليلة، اقتحامات ليلية، عقوبات جماعية، وعزل تعسفي، كما حدث مع الأسيرة كرمل خواجا.
رغم كل شيء، تبتسم بشرى وتتمسك بيوم الفرح: «خلِّيهم يجهّزوا للعرس، مروّحة!» توصي بسقاية ورداتها، وتهدي خطيبها وصية خفيفة: «كُل عنّي وعنك، وخفف الدخان» ثم تختم، بعفوية لا تعرف الانكسار: «وحياتك، تنساش تيجي ع العرس الشهر الجاي.»

 فاطمة الجسراوي :
 نفسنا نلف بحيفا قبل الترويحة

في ليلة 1 أفريل اعتقلت فاطمة الجسراوي (محامية، مواليد 1995 – السموع/الخليل)، لتزج في سجن الدامون، ويكتب فصل آخر من معاناة الأسيرات. أشد ما يؤلمها حرمانها من صوت والدها الذي تسكنه كما يسكنها. كبلت بقسوة حتى نزف كفاها، وتركت بلا علاج ولا دعم. «هاي فاطمة، اهجم عليها»، هكذا خاطب أحد الضباط الكلب خلال اقتحام عنيف. اليوم، فاطمة تقبع في غرفة 7 مع رفيقاتها تصلي وتقرأ القرآن، لكن تنقصها أبسط الأشياء: غطاء، ساعة، ثياب داخلية.
الطعام شحيح، والعزل سيفٌ مسلط. ورغم ذلك، تبعث الأمل في رسائلها: «بدّي كيكة الأناناس، وكاسة شاي مع أبوي، وعيّوش نايمة ع تختي» ثم تختم بأمنية لا تتعدى تراب هذا الوطن: «نفِسنا نلفّ بحيفا قبل الترويحة.»

رهام موسى :
بدّنا نروّح مشان الله

في 15 مارس 2025 اقتحمت قوات الاحتلال منزل رهام موسى (مواليد 1974 – كفر عبوش) بثلاثين جنديا، مزقوا الليل والأبواب.
«لو اتصلوا كنت رحت لحالي»، تقول رهام وهي تتحدث عن اعتقال عنيف ومذل بلا تهمة واضحة، ولا زيارة محام منذ أشهر. اقتيدت من أريئيل إلى الشارون، ثم إلى الدامون، حيث تقبع اليوم في غرفة 3 مع خمس أسيرات أخريات، بعضهن مريضات، وبعضهن حوامل، في ظروف تفتقر لكل مقومات الحياة.
 «لا دواء، لا تهوية، لا محكمة». تقول: «جمعت حبات زتون أسبّح فيهن…أخذوهن وزتّوهن.» وتضيف بحسرة: «بدنا نروّح، مشان الله.» تحنّ إلى حفيدتها لميس، تحلم بفرحة استقبال وغنّاية «وحنا كبار البلد»، وتبعث حبها لأبيها المعلّم، الذي لا يعلم إن كانت ابنته ما زالت حيّة خلف القضبان.

ماسة غزال :
طالبة الإعلام خلف القضبان

في فجر 28 أفريل 2025 اقتحم جنود الاحتلال منزل ماسة غزال (مواليد 2002 – نابلس)، طالبة الإعلام والعلاقات العامة ليعتقلوها بعنف، معصوبة العينين ومقيدة اليدين. اقتيدت من حوارة إلى «أريئيل»، ثم «هشارون»، قبل أن تُنقل إلى الدامون، حيث تواجه مع رفيقاتها ظروفا قاسية يوميا.
ماسة تصف السجن بأنه «مكان بلا كرامة»: غذاء فاسد، ملابس داخلية شبه معدومة، أدوات نظافة غائبة، تفتيش مهين، وشتائم يومية. تقول: «بس صابونتين للغرفة بالأسبوع...ولا ساعة نعرف وقت الصلاة». ومع ذلك، تصر على حفظ القرآن، وقيام الليل مع زميلاتها في الغرفة رقم 4: ريهام، بشرى، تسنيم، ولاء، وسارة. في وجه الظلم تعلن ماسة إصرارها: «نفسيّتي كثير منيحة، إحنا قويات».

فداء عساف :
رسالة أم إلى «قطر الندى»

في غرفة رقم 3 من سجن الدامون، حيث تحتجز الأسيرات المريضات والحوامل، تقبع فداء عساف (مواليد 1976 – قلقيلية)، تكابد ألم السرطان وألم الاعتقال منذ 24 فيفري 2025، حين أوقِفت على حاجز طيّار عائدة من المستشفى. لا يشغلها السجن بقدر ما تشغلها ابنتها الوحيدة «قطر الندى»، فتهمس كل صباح: «بخاف عليكِ من الهوى يا ست البنات».
فداء، التي تنقلت بين عدة سجون، تشارك رفيقاتها أخبار العائلة بحنين موجع، وتبكي أمها التي «تبكيها صباح مساء»، لكنها تصر أن تبعث السلام من خلف القضبان لكل الأحبة، وتوصي بنقل رسائل الأسيرات إلى أهلهم. «ليش ما بوصلني سلامات؟ بنتي وين؟» سؤال يتكرر، وكأن صمت الجدران يخفي الإجابة.

 ولاء حوتري :
أنا قوية زيّ أخوي الشهيد

من غرفة رقم 10 في سجن الدامون، تمسك ولاء حوتري (مواليد 1989، قلقيلية) بذاكرة أولادها الأربعة، وتعانق الغياب بالدعاء بعد أن اقتادها الاحتلال في 21 ماي 2025 من بين أطفالها إلى «أريئيل»، فالشارون، وأخيرا إلى الدامون. تعرف نفسها بجملة واحدة: «أنا قويّة زي أخوي سعيد الشهيد».تعاني من فقر دم وإعياء دائم دون علاج، ومع ذلك تقاوم. تحدثت عن «قمعة» قاسية إثر كتابة آية قرآنية على جدار، وعن التضييق في الطعام والفورة والهواء، ثم تنتهي همساتها بنداء أمومي مكسور: «سامحوني يما مشتاقة كثير للأولاد».

 لينا مسك :
سأعــود يا أمـــي

من الخليل إلى الدامون، خطفت لينا مسك (مواليد 1990، أم لثلاثة أطفال: سلسبيل، إيلان، وعبود) بسبب منشورات على مواقع التواصل، وظنت أن التحقيق عابر لكنه صار اعتقالا طويلا، وقهرا لا ينتهي. تعرضت لاعتداءات جسدية ونفسية: ضرب حتى برزت عظمة يدها، تهديدات، كلاب، شبح، ضحكات السجانين على قهر الأمهات. ومع ذلك، تعيد كل مساء رسم وجوه أطفالها، وتهمس: «ما نسيتكم راجعة، وبحبكم حب ما إله وصف».
تحلم بعد الحرية بمشروع يضم النساء والأطفال، وبوفيه فيه كنافة، قهوة، وضحكات صديقات الزنزانة. وفي لحظة شوق خالص، قالت: «نفسي بكنافة بعين سارة مع الكل، لس أطلع بنعيدها مع الأولاد». وفي الختام، وعد لا تكسره الجدران: «سأعود يا أمي».

الأسيرة سالي صدقة:
شفت الشمس وبكيت

سالي محمد صدقة ابنة 17 عاما من رام الله، طالبة «حادي علمي»، و»وردة الدامون»، اعتقلت في 5 جانفي 2025، وضربت وركِلت وحرمت من الشمس لـ37 يوما. حين رأت غروب الشمس لأول مرة من فتحة صغيرة، انهارت باكية: «شفت الشمس!» في المسكوبية، كانت الأيام جحيما بلا زمن، تتنفس القهر، لكنها تعلمت الصبر من شادن قوس، وغنت معها رغم الألم. وفي الشارون رأت الربيع من شباك، فحمدت الله. وفي الدامون، كانت وحدها تحت المطر حتى احتضنتها آية خطيب، وشعرت أنها ليست وحدها. اليوم في غرفة رقم 1، ترافق هناء حماد، تحفظ القرآن، تدرّس الأصغر منها، وترقص حين يتسرب الفرح. تلقَّب بـ»زهرة الدامون»، وتضحك رغم كل شيء: «الأمل معيشنا» رسائلها لا تنتهي: لأمها وأبيها: «جهزوا أواعي الاستقبال»، لصديقاتها ولجدتها: « قبل ما آكل الفسيخ!» وفي ختام همساتها، تسلم على حرائر الدامون واحدة واحدة، وتعد: «أمي وأبي، رايحة أرجع أئم فيك».

سامية جواعدة :
خزنولي ورق عنب أخضر بمرطبانات

سامية جواعدة (مواليد 1976 – الخليل)، معلمة أحياء، وأم لأربعة: شمس، نور، محمد، وفارس. اعتقلت بعد منتصف الليل، قائلة بسخرية: «هالقد أنا مهمة؟ لو طلبتوني بالتليفون، كنت جيت لحالي!» خضعت لتحقيق قاسٍ لـ22 يوما بسبب «بوستات هبل»، ثم نقلت إلى سجن الدامون، حيث تتقاسم وجع القيد مع رفيقاتها. تحكي عن قمع وسحل، وعن سهام (أم خليل من غزة) التي دفعت بوحشية رغم سنّها. «بيركعونا على العدد، وما في فورة!» لكنها، رغم القهر، تبث دفء الأمومة في رسائلها: «نور: بدي أحضر تخرجك من الطب» «شمس: من هندسة الحاسوب»، «محمد: شد حيلك»، «فارس: استمتع بالعطلة» وحين تذكُر زوجها أشرف تبتسم من خلف الحديد: «حلمت فيه كاتبلي قصيدة على ورقتين»، وذهلت حين سمعت أن أشرف زرع عنبا وتينا وخوخ.

كرمل الخواجا :
أنـــــا شوكـة بحلقهم

كرمل الخواجا (مواليد 2004 – نعلين/رام الله)، طالبة إدارة عامة في سنتها الرابعة بجامعة بيرزيت. اعتقلت فجر 2 مارس 2025 من منزل جدتها في دير قديس، وسجنت دون تهمة واضحة فقط تأجيلات تنهش زمنها. قضت 19 يوما في العزل والعقاب، وخرجت منه أقوى، ينادونها في القسم: «أنتِ شوكة، شوكة بحلقهم»في غرفة رقم 2 تسند زميلاتها: سامية، سالي، زهراء، وسناء، وتوزع الضحك والطعام والدفء رغم قسوة الزنازين.
 تحلم بمن غادرن الزنزانة، كدالية حناتشة، وتقول: «إن شاء الله بنرجع مثل قبل وأحسن» ترسل سلاما لأمها وتوصيها بهدية لخطيب خالها، تضحك على «طوشة خليل»، وتبكي حين تذكر محمد ابن أخيها طارق: «حلمت فيه مرتين، وانهارت بصمت» ترسل سلاما إلى بيرزيت لمن ناقشوا مشاريعهم ولمن ينتظرون، ولرفيقات الطريق: وعد، عهد، حيفا، يافا، آدم، وشاكر. تنتظر محكمة جديدة بتاريخ 10 آب/أوت 2025 بلا ملف واضح، فقط سجانة تضرب، وقيد يطيل الطريق. لكنها رغم كل ذلك، تقول بثبات: «أنا منيحة..لا تقلقوا»

لينا محتسب :
مُبدعة القِسم وقدّها

لينا محتسب (مواليد الخليل – أم لأربعة: زينة، ليث، جُمان، ويَاقوت)، معلمة رياض أطفال، اعتقلت في 2 أفريل 2025، ومرت بثلاثة سجون قبل أن تلقى في «الدامون».في الغرفة رقم 5، ذات الجدران الثمانية والقلوب الدافئة، أصبحت «مُبدعة القسم» بلا منازع: تُدرّب، تعالج، وتُعلّم، تقول بابتسامتها: «كل مشكلة بنلاقيلها حل، وبعمل مساج للصبايا!» تفرح لفرح من تحب لكنها بكت حين علمت أن أمها وأخيها أعيدا من طريق الحج: «معقول بس لأنها والدة الشهيد مهدي؟» ترتب الأسماء في قلبها كما تحفظ أنشودة: أمها، أبيها، إخوتها، زوجها، عائلته، بتول الصغيرة، التي وعدتها بكتاب مشترك عن التجربة. ترسل حبها للأبناء الأربعة: «كثير بحبهم، وبحلم فيهم كثير» وتختم بثقة تليق بأم من الخليل: «صحتي ممتازة، ولا حبة دواء أنا قدّها»

تسنيم بركات :
اشتقــت لحِلبـة أمــي

تسنيم بركات عودة (من وادي الجوز – مواليد 17 سبتمبر 2003)، طالبة قانون مقدسية، كانت تستعد لمشروع تخرجها لتصبح محامية كما حلم والدها الشهيد، لكن الاعتقال في 12 ديسمبر 2024 قطع الطريق بين المنصة وقوس المحكمة. من غرفة رقم 10 في سجن الدامون، صارت مؤذنة القسم. ترفع الأذان خمس مرات وتطلب من زميلاتها: «ادعوا لأمي». تعيش في زنزانة من القهر والأمل، ضيق، حر، منع من التنقل، غياب العلاج، وقيود على كل تفصيلة.
ضرسها آلمها طويلاً قبل أن يخلع، لكن ابتسامتها ما زالت حاضرة. حين تحدثت عن والدتها، بكت: «اشتقت لأكل أمي وخصوصا الحِلبة» أرسلت رسائلها كأنها تضعها في شال أمها الدافئ: لإخوتها إياد ونور: «اشتقت أتطاوش معكم»، لأختها سجود: «إمي أمانتك وبلغي لولو تهنئتي بعيد ميلادها»، لآية: «شدي حيلك بالدراسة، إن شاء الله بحضر كتب كتابك» وتختم تسنيم وصيتها بخفة وحنان: «عيشوا كل يوم، وانبسطوا عشاني» ففي قلب الأسر، تنتظر أن تعود، وتهمس لأمها: «جهّزي الحِلبة…وصلت.»

زهراء الكوازبة :
الحامل بالوجع واسم ابنتها يافا

زهراء محمد الكوازبة (مواليد 23 ديسمبر 1987 – من خلايل اللوز/بيت لحم)، أسيرة فلسطينية، وأم تنتظر مولودتها خلف قضبان سجن الدامون. اعتُقلت في 1 أفريل 2025، على حاجز طيّار قرب «معاليه أدوميم»، أثناء عودتها من أريحا.
 نقلت من عتسيون إلى المسكوبية لـ23 يوما من التحقيق والتشويش، فقدت وعيها مرة بسبب تشنج حاد وحتى الألم هناك يمنع من الصراخ. ثم إلى الشارون ليلا، ثم سجنت في غرفة رقم (3) في الدامون برفقة فداء، ياسمين، حنين، وسالي وبداخلها حياة اسمها «يافا».»في البوسطة كنت مربوطة بإيدين وإجرين وكلب، بس رفضت يعملوا خزعة للبيبي، مش مستعدة أسمح بشي ينزلها» قالتها زهراء ثم ابتسمت كأنها تهز السلاسل: «رجعت من الفحص، قلت للبنات: يحيى صار يافا.» هي أمٌ بالألم، وأمٌ بالذاكرة. تحدثت بحب عن أبناء زوجها فادي، وقالت: «ليلى، ووديع، وسارة، وكارمن، وليان هدول ولادي، أغلى من روحي.» ثم همست: «يسامحوني على اللي صار اشتقتلهم كتير.» ضربت، أهينت، نزع جلبابها بالقوة، سال دمها من وجهها، لكنها قالت بهدوء وكرامة: «أنا مش مستعدة أتنازل عن الجلباب.» زهراء ليست فقط حاملا بجنين، وإنما تحمل المعنى الثقيل للحرية. لا تعرف متى ستلد، ولا إن كانت ستراها قبل السلاسل أم بعدها، لكنها تقول: «أنا قوية عشانهم، وبفضل دعواتهم.» وفي نهاية اللقاء، أوصت: «سلم ع أهل أبو وديع، وعلى أهلي، وجوزي وبحبهم كثير.» ثم سكتت لأن عينيها قالتا كل شيء.

شيماء أبو غالي :
المريول الأبيض وقبر الأم وولد اسمه عمر

في الغرفة رقم (11) من سجن الدامون، تقف شيماء أبو غالي، الأسيرة القادمة من الحارة الشرقية في جنين، وفي عينيها ثلاث نوافذ لا تُغلق: واحدة تطل على ابنها عمر (13 عاما)، وأخرى على قبر والدتها الشهيدة فايزة، وثالثة على مريول أبيض علقته في الذاكرة منذ لحظة اعتقالها. شيماء طبيبة أسنان وأم وابنة وامرأة انتزعت من عيادتها ومن سرير ابنها فجر 29 أفريل 2025. دخلت السجن مرتدية ينس أمها وعباءتها، ومنذ ذلك اليوم تنام وهي تحتضنها: «عشان ريحتها فيها.« اقتيدت في البدء إلى مخيم جنين عمارة أبو الهيجا، بالتزامن مع هدم في نفس الطابق ثم إلى مركز طبي، فالجلمة، فالشارون مكثت 12 ساعة كانت مليئة بالقرف والحشرات والفئران»، كما وصفت. وأخيرا إلى الدامون حيث الأبواب من حديد والوجع من دخان وشتائم. تقول عن «الاستقبال» في الدامون: «ثلاث قمعات، تفتيش عاري، رش غاز، ألفاظ نابية، تهديدات بالاغتصاب، وضرب. «حفرت الكلبشات في يديها، وذاكرتها. ما زالت تتشبث بالحياة من أجل ولد اسمه عمر وصلتها منه رسالة يخبرها أنه «قضى العيد في المطاعم» وأنه «زلمة وقائد»، فأجهشت بالبكاء وقالت: «أنا مشتاقة لعمر...ومشتاقة أزور قبر أمي، هي بتيجي بالحلم وبعبطها.» توصي شيماء بالاهتمام بـأشجار القواوير في بيتها، تسقيها بالحنين: «مرّة بالأسبوع، بس لا تموت القواوير مش بس زرع، هذي أمي، عمر، وجنين»

بصوت الأسيرات جميعا:
تنتهك إنسانيتنا كل لحظة

هذا النص كتب بلسان كل واحدة منا، نحن أسيرات سجن «الدامون»؛ كتبناه لنروي للعالم ما لا تراه الكاميرات، ولا تظهره الجدران العازلة التي تفصلنا عن الحياة. كتبناه بصوت واحد يختصر وجعا متعدد الأسماء والقصص. فهنا، في هذا السجن المشؤوم، لا تحترم إنسانيتنا، ولا يراعى حقنا كنساء، ولا يصان أي شكل من أشكال الخصوصية أو الكرامة. نُفَتَّشُ عاريات تحت تهديد السلاح والكلمات البذيئة، ونُجرد من ملابسنا دون مبرر سوى إذلالنا. يُقتَحَمُ علينا القسم في ساعات الفجر، وتُقلَب أغراضنا، وتُكسَر أبواب الخزائن، ويُسرَق القليل مما نملك من احتياجات شخصية. نُراقَب على مدار الساعة بالكاميرات، حتى في الأماكن الخاصة.
يُمنَعُ عنا العلاج، ونُترَكُ لأوجاعنا تتفاقم بصمت، فيما الطبيبة في السجن تتعامل معنا كمجرمات لا كمريضات. الطعام فاسد، ولا يكفي. لا زيارات، ولا إدخال ملابس، ولا حتى رسائل تطمئننا عن أهلنا. في هذا الجحيم، لا فرق بين أم تبكي رضيعها، أو طالبة حرمت من امتحانها، أو مسنة تئنّ من آلام الظهر، أو فتاة خافت من الكلاب أثناء الاعتقال. جميعنا نُعاقَب فقط لأننا نساء فلسطينيات.
وإن كنا اليوم خلف القضبان، فإن حريتنا في صوتنا، وقصصنا، ووجعنا الذي سنجعله شهادة على حقارة هذا الاحتلال وانتهاكه لكل القوانين الدولية والإنسانية، حتى تلك التي تخصّ النساء في الحروب. ما بين قضبان السجن وأسلاك الاحتلال تنسج الأسيرات الفلسطينيات حكايات من الصمود والعزة رغم الألم المتواصل وانتهاك أدنى الحقوق. لا يُرِدنَ شفقة، يردن عدالة. لا يحتجن إلى دموع، يحتجن وقفة حرة في وجه هذا الظلم الذي يُمارَس عليهن يوميا. صوتهن شهادة حية تفضح ممارسات احتلال لا يفرق بين قاصرة وعجوز، ولا يحترم قانونا أو إنسانا.
إن ما يحدث في سجن «الدامون» سياسة ممنهجة هدفها كسر إرادة المرأة الفلسطينية وتشويه كرامتها. لكن الحقيقة التي لا يدركها هذا المحتل أن هذه الكرامة عصية على الانكسار وأن هذه الأسيرات، وهنّ في قلب الزنازين، يصنعن حريتهن ويرسمن ملامح فلسطين القادمة من خلف القضبان. وبينما تغيب العدالة في المحاكم العسكرية ويصمت القانون الدولي عن إنصاف الأسيرات فإن هذه الكلمات، هذه الأصوات، تبقى أمانة في أعناق كل أحرار العالم أن يسمعوها، أن يرددوها، وأن يحولوها إلى فعل. لعل حريتهنّ القادمة تبدأ من هنا، من صوت لا يُكتم.