طباعة هذه الصفحة

عثمان يونــس

لأن الجــذور لا تُخلــَع

بقلم : ثورة ياسر عرفات
لأن الجــذور لا تُخلــَع
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

حين خُيّر بالخروج من السجن مقابل النفي، لم يتردد. قالها ببساطة المؤمن بوطنه: “إن لم أخرج إلى سنيريا، فلا حاجة لي بالخروج.” لم يكن القرار سهلًا؛ فالسنوات أثقلت الجسد، والرصاص ترك جراحًا لا تندمل، والمرض نخر في أعماقه.

عثمان يونس آمن أن الحرية التي لا تعيده إلى أرضه، ليست حرية، بل قيدٌ من نوعٍ آخر. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد اسمه مجرّد رقم في ملف الأسرى…بل صار رمزًا لرجلٍ اختار أن يبقى خلف القضبان، لأن قلبه لم يغادر فلسطين.
الطفل الذي حفظ اسم وطنه، في قرية سنيريا الواقعة جنوب قلقيلية، وُلد عثمان إبراهيم أسعد يونس في 14 مارس 1976 نشأ في بيت فلسطيني بسيط، يزرع الأرض، ويزرع في أبنائه حب الكرامة، والإيمان بأن الحقوق لا تُمنَح، بل تُنتزع.
منذ صغره، كانت تسكنه أسئلة لا تهدأ: لماذا يُهدم بيت الجار؟ لماذا يُعتقل ابن الحي؟ ولماذا الجنود في كل الأزقة؟ لم يكن بحاجة إلى إجابات كثيرة.
كان يكفيه أن يرى عيون أمه وهي تودّع الشهداء لتعرف أن الوطن جرحٌ مفتوح، وأنه لا شفاء إلا بالحرية. كبر سريعًا، واختار طريق المقاومة في سنٍ مبكرة. لم يكن من أهل الشعارات، بل من أهل الفعل.
وفي شبابه، انخرط في صفوف كتائب شهداء الأقصى، يعمل في صمت، ويتحرك بحذر. الرصاص...وصاروخ “الأنيرجا” في صباح 22 أوت 2003، وبينما كان في البلدة القديمة في نابلس توجه إلى زيارة والدته المريضة في مستشفى رفيديا بمدينة نابلس، نصبت له وحدة خاصة من جيش الاحتلال كمينًا على مدخل المستشفى، فتح الجنود عليه النار بعنف، 24 رصاصة اخترقت صدره، بطنه، ظهره، كتفه، وساقه. ثم أطلقوا باتجاهه قذيفة “أنيرجا” في محاولة واضحة لإعدامه ميدانيًا.
سقط عثمان مضرجًا بدمه، بين الحياة والموت. نُقل إلى المستشفى بحالة حرجة، وخضع لعمليات جراحية معقدة: استئصال الطحال، إزالة جزء من البنكرياس، فقدان ربع المعدة، واستئصال أكثر من أربعة أمتار من الأمعاء الدقيقة. ورغم حالته الحرجة، لم يُمهلوه طويلًا. فبعد أيام فقط، اقتادوه إلى المعتقل…ليبدأ فصله الأبدي مع الأسر.
أربعة مؤبدات...وقلب لا ينكسر لم تكتفِ سلطات الاحتلال بمحاولة اغتياله. فبعد أسابيع من نقله إلى السجن، أصدرت محكمة عسكرية بحقه حكمًا بالسجن أربعة مؤبدات، بتهم تتعلق بالمقاومة المسلحة والانتماء لـ كتائب شهداء الأقصى.
دخل السجن جريحًا، محكومًا مدى الحياة، لكنه لم يدخل مكسورًا. بل كان صلبًا، ثابتًا، وواعيًا بأن معركته لم تنتهِ. بل بدأت. صار صوتًا للأسرى، وملجأً للمنهكين، وصورةً حيّة للصمود. علمهم كيف يكون الثبات، ليس بالخطب، بل بالصمت المُفعم بالإيمان. الجسد المنهك... والروح التي لا تهزم السنوات في الأسر تركت أثرها الثقيل على جسده.
 نتيجة الإهمال الطبي داخل السجون الصهيونية، أصيب بعدة أمراض خطيرة:
ورم في الحنجرة سبّب له صعوبة في البلع والكلام، التهابات مزمنة أدّت إلى بتر أصابع من يده اليسرى، نزيف داخلي متكرر، ارتجاع شديد، وضعف حاد في المعدة. ورغم ذلك، لم يتلقَ العلاج المناسب. بل تُرك يعاني بصمت، كما يُترك مئات الأسرى المرضى ليتآكلوا من الداخل.
نورٌ في ظلام الأسر
رغم الألم، لم يسمح للعزلة أن تبتلعه. من خلف القضبان، التحق بجامعة القدس المفتوحة، وتخرّج بدرجة البكالوريوس في الدراسات الإسلامية. قرأ، كتب، تعلّم، وتواصل مع العالم الخارجي قدر ما تسمح به قيود الاحتلال.
كان بالنسبة لرفاقه نافذة على الأمل، وبوصلة في زمن التيه. حين عُرضت عليه “حرية مزيفة”...رفضها، مع مرور السنوات، وعبر صفقات التبادل، عرض عليه الاحتلال الإفراج عنه بشرط الإبعاد خارج فلسطين. ربما إلى غزّة، وربما إلى بلدٍ آخر.
لكنه رفض بشكل قاطع. وقال جملته الشهيرة: “لن أغادر أرضي إلى منفى. لا أخرج إلا إلى سنيريا، حيث بيتي وأهلي...وقبري إن كتبه الله.” رفض الحرية المشروطة، لأنه يؤمن أن منفى بلا جذور ليس خلاصًا، بل شكل آخر من الأسر. لأن الجذور لا تُخلع، عثمان يونس ليس رقمًا في سجل الأسرى. بل راية مرفوعة في وجه النسيان، ودرسًا مفتوحًا في الصمود.
هو هناك، خلف القضبان، لا ينتظر شفقة، ولا يبحث عن خلاص فردي. كل يومٍ يمر، يُثبت أن الانتماء الحق لا يتزعزع…حتى ولو قُيّد بالسلاسل. وسيأتي اليوم…حين يعود إلى قريته، لا كغريب، بل كمنتصر خرج من معركة طويلة، رافع الرأس، نقيّ الموقف، ثابتًا كجذور سنيريا. لأن الجذور، ببساطة...لا تُخلَع.