طباعة هذه الصفحة

يا رب المساكين ثأرك!

بقلم : حسين عدوان
يا رب المساكين  ثأرك!
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

لا أعرف شخصًا فقَدَ تسعةً من أبنائه دفعةً واحدة ولا حتى على دفعات. لا أعرف مثل هذه التجربة لا لدى الناس الذين عرفتهم ولا حتى في قراءاتي في السّير والتواريخ والقصص العجائبية. فقدت الخنساء أربعة فصارت مضرب مثلٍ وخُلع لقبها على النساء الثكالى مدى الدهر، وفقد أبو ذؤيب الهذلي خمسةً فخلّدهم وخلُد بهم في عينيته الشهيرة، ومن القصص النادرة قصةٌ عن شاعر اسمه الحارث بن حبيب الباهلي فقَدَ ثمانيةً من بنيه، ثم رأى رجلًا يبكي على شاةٍ أكلها الذئب، فمنحه ناقته وقال له: خذ هذه بشاتك، ولكن دع البكاء لأهله.

كنت أظن أن قصة الحارث الباهلي وأبنائه الثمانية تحمل أضخم رقمٍ ممكن في تجربةٍ لا يحتملها الإنسان في ولدٍ واحد، حتى كان أمس فرأيتُ بعيني طبيبةً مسكينةً استقبلت جثامين تسعة من أبنائها قتلهم الأنذال في لحظةٍ واحدة من الخسة والدناءة. تسعة! أمضوا نحو سبع سنوات في رحمها لتضمهم أشلاءً وبقايا! وأمضوا ثمانية عشر عامًا على صدرها لتودعَهم الظلام! وبين هذا وذاك تعب طويل وليالٍ وسهر وأحلامٌ وكلام!

بعد هذه المعركة، سيعيد التاريخ تقسيم العرب قسمتَهم الأولى إلى عرب بائدة وعاربة ومستعربة، لا على أساس لغوي أو جغرافي، بل على أساس المذبحة. أما العرب البائدة فقومٌ منا نراقبهم ينقصون يومًا بعد يوم، تذبحهم آلةٌ غادرة خسيسة، يموتون حرقًا وقصفًا وجوعًا وأملًا في الخلاص! وأما العرب العاربة، فمن لا تزال عنده مُسحة من غضب ومُسكةٌ من شرف وبضعةٌ من مروءة. مَن إن لم يستطع فعل شيء تغطّى بالخجل وافترش أرضَ الحسرة. مَن على الأقل يرجو ويدعو. وأما المستعربون، فمَن لا تردعُه دماء إخوته عن أن يفرح ويمرح، ومن لا يخجلُ أنّه حيٌّ وقد ماتوا، وأنه متخمٌ وقد جاعوا، وأنه آمنٌ وقد خافوا.